» مقالات » قالب الصلاة
مقالات

قالب الصلاة

3 مايو، 2009 4078

سأل أحدهم جلال الدين الرومي: هل هناك طريق أقرب إلى الله من الصلاة؟

قال: الصلاة أيضاً، لكن ليست هذه الصورة الظاهرة فقط، هذه «قالب» الصلاة، لأن لها بداية ونهاية، وكل شيء له بداية ونهاية يكون قالباً. التكبير بداية الصلاة، والسلام نهايتها.

****
ثمة فارق بين ما يمكن أن نسميه «قالب» الصلاة، وبين «قلب» الصلاة. الصلاة التي تبدأ بتكبيرة الإحرام وتنتهي بالتسليم هي قالب الصلاة، لأنها تحدِّد وقت اتصالك وطريقته، وكل ما يُحدَّد فإنه يَحِدّ. الصلاة الأخرى التي يشير إليها ابن الرومي يتّصل منها القلب، والقلب نقيض القالب، سمي قلباً لأنه يقلِّبك في حالاته وأوضاعه وتجلياته ومكاشفاته ومعايناته ومشاهداته ومجهولاته، أما القالَب فيصبَّك فيه صبَّاً، يصبّك وفق شكله ويحدّك ببدايته ونهايته وسعته أو ضيقه.

يبدأ «قلب» صلاتك حيث ينتهي «قالب» صلاتك. حيث تغادر ضيق قالبك ومحدوديته ونهائيته، إلى سعة قلبك ولا محدوديته ولا نهائيته، هل أمسكت يوماً حدود قلبك؟! لكنك حتماً ممسك بأقصى حدود قالبك. الكثير من قوالبنا المعتمدة مجتمعياً وثقافياً، نتعلّم حدودها قبل أن نتعلّم النطق حتى، لكن للقلب دوماً شأن آخر. لا يقبل القالب إلاّ صورة واحدة فقط، هي تلك الصورة المعدّة له سلفاً، بينما يقبل القلب كل صورة. لهذا كان ابن عربي الذي حرّر قلبه من ضيق القوالب وسلطتها يقول «لقد صار قلبي قابلاً كل صورة، فمرعى لغزلان ودير رهبان، وبيت لأوثان وكعبة طائف، وألواح توراة ومصحف قرآن. أدين بدين الحب أني توجهت، ركائبه فالحب ديني وإيماني». هذا الدين (دين الحب)، لا يمكن لأصحاب القوالب أن يقبلوه، لهذا اُتُّهم ابن عربي بالكفر والزندقة والإفك والضلال ووو. القوالب تقوم على الاستثناء لا الاتساع، هي لا تتسع لدين تقوم ركائبه على الحب والتسامح والقبول والتعدد والتنوع، بل تحصر الدين في قالب واحد على جميع ركائب أهل الأرض أن يتشكّلوا وفقه.

القالب سلطة حدّ والقلب سلطة حُب وفرق بين السلطتين. سلطة القلب دائماً تُقلِق سلطة القالب وتخيفها، فتلك الأخيرة سرعان ما تكبو حين يعلو في القلب الحب، ذلك الذي يأخذك إلى حيث لا تعلم.

الرومي وعبر إجابته على سؤال: هل هناك طريق أقرب إلى الله من الصلاة؟ كان يحاول أن يخرج بسائله من أن يكون القرب من الله مجموعة من القوالب. القرب لا يتحقق عبر قوالب الشعائر والممارسات والطقوس التي تنتهي صلتها بمجرد أن تنفض سجادة صلاتك، ولا عبر بياض ثيابك التي تحرص أن ترتديها بعناية وطهارة ونظافة، بل هو قلب ينبض ببياض الله في الأرض، قلب يجعلنا نحب صورة الله البيضاء ويد الله البيضاء وقلب الله الأبيض وحضن الله الأبيض، يجعلنا نشتهي أن ندخل صورة الله كل الوقت، أن نتشبه بها قدر الطاقة. ذلك هو قلب الصلاة، وتلك هي الصلة الأبقى والأقرب والأصدق والأخشع. ليست القوالب هي من تُحضر الخشوع إلى الصلاة، بل القلب هو من يفعل.

لماذا كلّما علا في مساجدنا وجوامعنا ومحاريب صلواتنا ومزاراتنا وأماكننا المقدسة صوت الصلاة، كبا فينا صوت السلام وتقلّص منا التسامح وغاب عنا الحُب؟ لماذا من ذات المكان، وبذات القدر من ارتفاع الأصوات، وربما أرفع، تعلو أصوات العصبية والكراهية والتهديد والوعيد والزجر؟ لماذا كلما اتسعت مساحات مساجدنا (التي نسميها بيوت الله) وارتفعت مآذنها، ضاقت صدور بعضنا على بعضنا الآخر وتقولبنا في جماعات أشدّ ضيقاً وتعصباً وتطرفاً؟ لماذا كلما أمعنّا في ارتداء أثواب التدين البيضاء، غادرنا (بذات الإمعان) بياض السلام، وصرنا نحمل للآخرين الرعب بدلاً من الطمأنينة، والخوف بدلاً من الأمان والاحتواء؟ أليست الطمأنينة والأمان والاحتواء هو نبض الله فينا؟

****

«أسامة»، فيلم أفغاني يروي حوادث قصة حقيقية في الحكم الطالباني لأفغانستان. في هذا الفيلم لن ترى غير الرعب في عيون الفتاة (12 عاماً) التي لن نعرف اسمها؛ سنعرفها فيما بعد باسم الصبي (أسامة). الطالبانيون يمنعون المرأة من كشف وجهها أو الخروج إلى العمل أو حتى مغادرة المنزل بلا محرم مهما دعت الضرورة، سيكون الإعدام رمياً بالرصاص في ساحة عامة، هو عقاب من تتجرأ على التمرد. والدة أسامة أرملة فقدت زوجها وعمّها في حرب السوفييت مثلها مثل عدد كبير من النساء، فقدت عملها كممرضة بعد أن أغلق رجال طالبان المستشفى الذي تعمل فيه، اضطرت بعد أن أعيتها الطرق إلى قطع ظفائر ابنتها التي لم تبرز معالم أنوثتها بعد، ودفعها للعمل في السوق كصبي لتحصيل ما يمكن أن يسد رمق حاجتهم اليومية.

ستعيش هذه الفتاة رعباً لن يكفّ عن أن يلمع في عينيها ويرجف على شفتيها طوال وجودها خارج المنزل، لن يهدأ رعبها حتى وهي في حضن جدتها التي ستبقى تهدهد روعها بحكايات قبل النوم. سريعاً ما سيأخذ الطالبانيون أسامة من دون إذن أهلها مع بقية الصبية لتهيئتهم وتدريبهم عسكرياً، وستكون أحكام الوضوء والطهارة والغسل والصلاة وقراءة القرآن هي الدروس التي سيتلقاها الصبية هناك. شيخ الدين السبعيني المكلّف بتعليم الصبية، سيهتم أن يقوم بنفسه بالاغتسال (جزئياً وارتماسياً) أمام الصبية، وسيهتم أن يراهم يطبقون الغسل واحداً واحداً ليتأكد من إتقانهم لـ «قالب» الغسل الذي علّمهم إياه. الصبية سيحولون القوالب التي يتعلمونها إلى متعة بريئة قبل أن تقولبهم كباراً. أما أسامة فسرعان ما ستنكشف حقيقتها بعد أن تبدأ أولى علامات أنوثتها بالبروز (الدورة الشهرية)، وسيتم جرها إلى ساحة الموت مع باقي النسوة اللاتي تجرأن على مخالفة «قالب» طالبان. الشيخ السبعيني سينقذ أسامة من حكم الموت الذي ينتظرها، سيفعل ذلك لا من أجل أن يحررها، بل ليتزوجها. وضمن طقس أشدّ جنائزية من الموت، ستقوم زوجاته الثلاث بتهيئة أسامة وتزيينها ليدخل عليها من دون اكتراث ببكائها الطفولي الذي لم يكفّ ينادي أمها. الأم التي لا تعلم عن ابنتها شيئاً. سينتهي الفيلم بالشيخ يغتسل مرتمساً في مغطس مجهز له خارج الغرفة!

هل هناك طريق أقرب إلى الله من الصلاة؟
كيف يمكن أن تكون قوالب الصلاة والغسل وقراءة القرآن قُرباً، مادامت لا تغسل ولا تطهّر ولا تنظّف إلا قالب الجسد فقط؟ كيف تكون قُرباً مادامت تُنجز كل هذا الرعب والفرض والمنع والقمع والفتك والبشاعة والاغتصاب والقتل الرمزي والحقيقي؟

****
أيتها الصلاة التي لا قلب لكِ: لتذهبي إلى الجحيم..
لا نريد قرباً من إله تشغله القوالب، بل نريد إلهاً يحتفي بالقلوب، التي هي ميزة الإنسان.

لمشاهدة المقال والتعليقات http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=12732

قيم المنشور!

باسمة القصاب

باسمة القصاب

نصف جناح ونصف جسد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  • ×
    تسجيل الدخول / العضوية