بنك الغضب الإسلامي
«إن ما حل بأمتنا من عقوبة إلهية بسبب بعدها عن دينها وتركها للجهاد في سبيل الله عز وجل.. فيا أصحاب الفضيلة العلماء: تعالوا قودوا أمتكم وادعوها إلى الله وارجعوا بها إلى دينها تصحيحاً للعقائد ونشراً للعلم وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر وجهاداً في سبيل الله عزوجل وتحريضاً عليه «يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال»… وإذا لم تستطيعوا ذلك في بلادكم فهاجروا في سبيل الله عزوجل.. والهجرة مرتبطة بالجهاد والجهاد ماض إلى يوم القيامة.. « «خطاب 1»
«سكوت الجماهير المؤمنة المعارضة سيحمل على تأييد القانون بلا ضمانات، وسيعتبر ضوءاً أخضر لتمريره، وإذا تأخر يوم المعارضة الجماهيرية الصارخة بعض الشيء، سقطت قيمة المواجهة، وهذا القانون لو مرر فلا عودة عنه إلا بالدماء الغزيرة، وقد لا تفيد الدماء» «خطاب 2»
النصان السابقان مقتطعان من نماذج خطابات اسلامية غاضبة. الأول يُظهر الله الغاضب الذي يعاقب الناس على تقصيرهم بالكوارث والأوبئة. والثاني يُظهر ما يجب أن تكون عليه الجماهير «المؤمنة» من غضب من أجل الله دائماً وأبداً. غضب «المؤمنين» يأتي على شكل تحريض على الجهاد أو على المواجهة الصارخة.
يستمد «المؤمن» غضبه من غضب الله. الله دائماً غاضب على هذه الأرض، إذ ليس يسود في هذا العالم إلا الكفر والعصيان والانحلال، وليس على وجه هذه الأرض ما يستدعي غير الغضب.
* * * *
في كتابه «الغضب والزمان» يقرأ الفيلسوف الفرنسي بيتر سلوترداك أشكال الترويض المستمر للغضب. وكيف أن الإيدلوجيات المختلفة عبر التاريخ، عملت على أن تعزز في الإنسان دوافع الغضب والاعتزاز والفخر والانتقام والحسد والغيرة والتسابق والتنافس وشوق الاعتراف (1)، أي استثمار ما هو غريزي وحيواني فيه، من أجل تعزيز وجودها وفرض سيطرتها وإلغاء من يختلف معها، وهي إذ تقوم بهذا الاستثمار فإنها تعتمد على بنك الغضب. ما بنك الغضب؟
يلفتنا سلوترداك إلى أن طاقة الغضب التي في الإنسان وما يرتبط بها من دوافع أولية مثل الفخر والاعتزاز والانتقام والحسد والغيرة والتنافس، هي عرضة للاستثمار، فكما أن عقل الإنسان عرضة للاستثمار، وكما أن جسده عرضة للاتجار، كذلك قوة غضبه هي موضوع للتجارة. في بنوك الأموال تدخل رؤوس الأموال المجمّدة وغير المستخدمة ليتم تحريكها وتدويرها واستثمارها وتكثيرها. وفي بنوك الغضب تدخل مشاعر الناس وتخوفاتهم وغرائزهم وعصبياتهم واحباطاتهم ليتم تحريكها وتدويرها واستخدامها.
هناك إذن بنوك للعقول وبنوك للأموال وبنوك للأفكار، الفائدة التي نتحصل عليها من هذه البنوك هي ما تبرر وجودها، ما يعود علينا من أموال أو أفكار أو عقول يجعل هذه البنوك شرعية ومبررة وذات نفع عام. لكن ما الذي يبرر استثمار الغضب عند الإنسان؟ أليس الغضب هو ما يمثل الجانب الجاهل والغريزي الذي تحذرنا منه الأديان ونظريات التربية والأخلاق؟
التاريخ الإنساني صناعة غضبية بامتياز. القادة الذين حركوا الجماهير على مر التاريخ إنما حركوا بالأصل غضب هذه الجماهير. ينجح هؤلاء بقدر ما يتمكنوا من قيادة غضب الجماهير نحو غاياتهم وأهدافهم.
وبقدر ما يكون الغضب ذا طابع مقدس، يكون مبرراً ومشروعاً، بل مفروضاً وواجباً. الغضب باسم الإله يحضر باستمرار في النزاعات البشرية التي يقترن فيها الديني بالسياسي. يصير النزاع السياسي «الذي هو في أصله نزاع سيطرة واستيلاء وقوة ونفي للآخر» مبرراً ومقدساً باسم الغضب الديني، أي غضب الإنسان من أجل الإله. فالتاريخ الإنساني السياسي المشبع برائحة الدم، هو نفسه تاريخ الغضب باسم الإله.
* * * *
الغضب كما تقدمه نماذج الخطابات «1،2»، ليس غريزة إنسانية فقط، بل هناك غضب إلهي. هذه الخطابات التي تنتمي إلى الاسلام السياسي، تقدم الله بصورة الغاضب الدائم السخط على ما يقوم به الإنسان في الأرض. غضب الله سيستخدم قوى الطبيعة للانتقام من الإنسان على ما يأتيه من ذنوب وآثام، سيعرضه للهزات الأرضية والبراكين والفيضانات والأعاصير، سيعرضه للمجاعات والأمراض والأوبئة والأمراض الغريبة والمهلكة والحروب، سيهلك زرعه وحرثه ونسله، سيمنع عنه المطر والخير والحصاد، وسيزيد حرارة الأرض عبر الزمن، سيهلك أقواماً وأمماً وشعوباً، وسيبيد جماعات.
الإنسان المسلم مكلف بخلافة الله في الأرض، فهو مكلف بخلافة صورة الله الغاضبة. لهذا فهو يتماثل مع الله في غضبه فقط. الصورة التي يعرفها عن الله. المسلم يد الله الغاضبة في الأرض.
هل يليق أن يفرح المسلم في حين أن الله غاضب؟ الفرح عند هذا المسلم لا بنك له. الدنيا ليست مكاناً لاستثمار الفرح. بل هي مكان لعبور الغضب. أنت تتمثل صورة الله بقدر ما تكون غاضباً وساخطاً. لهذا ستغضب من الإنسان الآخر الذي يختلف معك وعنك، ستغضب من الغرب الذي يمثل بالنسبة لك شيطاناً منحلا أخلاقياً ومقياساً للفسق والفجور والفساد، ستغضب من الأديان الأخرى التي لا تتفق صورة إلهها مع صورة إلهك، ستغضب من المعتقدات الأخرى، من الثقافات الأخرى، من العالم، ومن الحياة نفسها.
الاسلام السياسي التي نعيش مآزقه اليوم، يشتغل برأسمال بنك الغضب. والغضب الإلهي هو أحد أهم مصادر هذا البنك. إنه رأسماله الحقيقي الذي يقنع به جمهوره كي يثقوا به ويودعوه غضبهم يتصرف فيه كيف ما يشاء. الغضب الإلهي غضب مشروع ومضمونة عاقبته. لا ينكسر هذا البنك ولا يفلس ولا يتعرض لأزمات اقتصادية. هو مأزوم دوماً وفي أزمة وجودية وتأزمه هو رأسماله.
ممثلو الله في الأرض سيمثلون حالة الغضب الإلهي. ولأنهم يد الله في الأرض، فإنهم من سيقيم العقاب على الأرض نيابة عن الله، لذا سينفذون عميات الثأر والانتقام والعقاب والقصاص، وسيفتخرون بغضبهم، وسيعترفون بما أنجزه هذا الغضب من قتل وسفك للدماء، وسيعلنون مسؤوليتهم عنه، وسيحذرون أعداءهم مما ينتظرهم من المزيد بكل فخر واعتزاز.
* * * *
على عكس الإله الغاضب الذي يغرقنا فيه الإسلام السياسي اليوم، ثمة إله باسم يداخلنا عليه الحسّ الصوفي: إله فرح محب متسع رحب متعدد كثير. من يتمثل هذا الإله، سيكون محباً رحباً متسعاً متعدداً مثله، وسيستثمر دوافع الحب والخير والسلام الموجودة في الإنسان، بدلاً من دوافع الغضب، وبعدها، قد يمكننا الحديث عن بنك السلام الإنساني، بدلاً من بنك الغضب الإسلامي.
[ (1) للتوسع في المفهوم انظر: أزمة المسلم الأخير ونهاية التدين. العادل خضر. ص 165-176.