عاشوراء هذا العام، ليست ذكرى
هذا العام، لدي شعور مختلف نحو عاشوراء. تنتصب كربلاء أمامي، لا رمزاً، ولا تاريخاً، ولا حكاية مقدّسة، بل حضوراً حقيقياً معاصراً. الأشهر الفائتة كانت عصيبة على القلب والبصيرة، انفجار وجداني، من غزة، إلى لبنان، ثم إلى إيران، بدت الأرض كأنها تُعيد تمثيل كربلاء فصلاً فصلاً.
لم أشعر بكل هذا القدر من التماهي بين الحاضر وكربلاء، كما هذا العام. لم تكن كربلاء في وجداني سرديةً دينية فقط، بل مختبراً إنسانياً متفجّراً: للفجيعة، البطولة، الصمود، التضحية، الوقوف في وجه الجبروت حتى آخر رمق. واليوم، أراها تصدح في وجوه المقاومين، صرخات الأمهات، المآذن المحترقة، الأطفال الذين ينامون على تراب الخيام المحاصرة، بلا ماء ولا طعام ولا أمان.
أرى الحسين حضوراً ثاقباً، في القادة الذين قدّموا أرواحهم وأبناءهم دون تردّد، رغم غدر العالم وسيادة النفاق، ظلّوا ثابتين على مبدئهم، صادقين في شعارهم: “لا والله لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ إقرار العبيد”، مضوا وهم يعلمون ما ينتظرهم من ثمن، لكن ظلت أعينهم على ما يتطلعون إليه من الكرامة، لأن الهدف يستحق.
وأرى أصحاب الحسين في كل من رفض أن ينحني، أن يستسلم، أن يساوم. المقاوم الذي يعرف أن ثمن النصر باهظاً، وقد لا يكون قريباً، لكنه مع ذلك اختار الطريق المكلّف أكثر، الأصعب، الأطول، لكن الأصدق، طريق الدم لا الخضوع. وشعاره: “إن كان هذا يرضيك، فخذّ حتى ترضى”. لم يقبل أن يكون من فئة (قلوبهم معك لكن سيوفهم عليك)، بل وضع سيفه موضع قلبه ومضى.
وأرى زينب في كل امرأة خرجت جريحة من تحت ركام بيتها المهدّم، شامخة مثل جبل، رفيعة مثل سماء، تحمل طفلها الشهيد، وقولها الوحيد: “ما رأيتُ إلا جميلاً”.
في المقابل، ذلك التجلّي الفاقع للطرف الآخر من المعادلة: أقصى الغرور، استعراض الغطرسة، التماهي في الطغيان، تمجيد النفاق، اللهاث وراء السلطة، والانحدار الأخلاقي حتى قعر السقوط. يعيد التاريخ نفسه، لا بتكرار ميكانيكي، بل بروح واحدة تعيد تمثيل نفسها كلما أتيحت لها ساحة.
كأن قاتل الحسين لم يمت، وكأن سيده ما زال يوزّع المال على قنوات الإعلام، ويأمر بتشويه الشهداء، ويدسّ الروايات المدفوعة، ويحرّف الوقائع. ما أكثر النسخ التي خرجت من عباءته، وما أشنعها!
تداخلت كربلاء في هذه الصور كلّها، بدت لي لحظة ممتدّة، أعادت إليّ وعيا لمكانتها التي طالما رددناها: “كل أرض كربلاء، كل يوم عاشوراء”، أراها اليوم مشهداً مكتملاً أمامي في غزّة، وفي الجنوب، والحرب الأخيرة في إيران. وأسمع بكل شموخ صدى صوت الحسين وهو يتردّد: “هيهات منا الذلة”.
قد يجيب هذا على سؤال يتكرّر: ما سرّ الحضور السرمدي لهذه الواقعة، هذا التكرار الذي لا يبهت؟
أظنّ ليس بسبب رمزيتها الدينية ودلالاتها الإنسانية فقط، بل لأننا عبر استحضارنا الوجداني المكثّف لها كل عام، نتزوّد بأهم أكسير يقينا من السقوط في بلادة المشاعر، وانهيار المبادئ، وضياع الأنفة، وتشظّي الكرامة. إنه بمثابة لقاح، نحقنه في دمائنا كل عام، لتبقى مناعة الـ(هيهات) طازجة فينا، تشعلنا بحرارتها، وتحررنا بعنفوانها.