» مقالات » فلاسفة التنوير.. حين يخون الحُرّاس الفكرة
مقالات

فلاسفة التنوير.. حين يخون الحُرّاس الفكرة

22 يوليو، 2025 70393

 

 

حين أقول لك إن الورقة النقدية التي في يدك الآن مزيفة، لا تجبني بسؤال: هل هذا يعني أنك لم تعد تؤمن بالمال؟ أنا لا أهاجم فكرة المال، بل أكشف زيف ما طُبع باسمها. أنا أحدثك عن الواقع الحاصل، وأنت تردّ عليّ بنقاش حول المفهوم، لا حول التزوير الذي بين يديك.

***

فلنأت إلى فلاسفة الحداثة والتنوير، فولتير، روسو، كانط، هيغل، ولوك، أسماءٌ وُضعت في واجهة التحرر والعقلانية والعدالة. هل كانوا حقاً أوفياء لما بشّروا به؟

فولتير، أعظم دعاة التسامح في عصر التنوير، ما لبث أن مارس الانتقائية الأخلاقية. امتدح كاثرين إمبراطورة روسيا، رغم قتلها لزوجها واستعبادها للفلاحين، فقط لأنها دعمت التنويريين واشترت مكتبة ديدرو. لم يُرَ فولتير يتأفف من تقسيم بولندا أو حروبها الدموية ضد العثمانيين، لأن المصلحة الأيديولوجية كانت أهم من المبادئ.

جون لوك، “أبو الليبرالية”، كتب عن الحرية والتملّك وحقوق الإنسان، لكنه كان في الوقت نفسه مستثمراً في تجارة العبيد، ومسوّغًا قانونيًا لشرعنة عبوديتهم في مستعمرات بريطانيا. كيف لرجل يؤمن بالكرامة الإنسانية أن يربح من بيعها؟

إيمانويل كانط، الذي نظّر لاحترام الإنسان بوصفه غاية في ذاته، كتب نصوصاً عنصرية صادمة تجاه غير الأوروبيين. رأى في الأفارقة “عرقًا أدنى”، وفي غير البيض عقولاً لم تبلغ بعدُ سنّ العقل الفلسفي. عقلانيته لم تشمل إلا من يشبهه في العرق والدين.

جان جاك روسو، الذي كتب “العقد الاجتماعي” وتغنّى بالمساواة، سلّم أطفاله الخمسة إلى ملجأ أيتام، وكتب عن المرأة بوصفها “جوهرة خجولة” لا تصلح للحياة السياسية. كان يكتب عن الحبّ الأبوي وهو يتخلّى عنه، وعن المساواة وهو يشطب نصف البشرية منها.

هيغل، الذي قال إن التاريخ عقل يتجلى، استبعد غير الأوروبيين من هذا العقل. رأى أن أفريقيا بلا تاريخ، وأن الشعوب غير الغربية لا تملك قدرة المشاركة في صناعة العقل الكوني. مجّد الدولة البروسية كذروة التجلي العقلي، ولو كانت مستبدة.

كل هؤلاء الفلاسفة بشّروا بالحرية… لكن مشروطة. بالمساواة… لكن مؤطّرة. بالعقل… لكن بلون واحد. خيانة التنوير لم تكن في أفكاره فحسب، بل في ممارسات حامليه. التنوير، حين تلبّسته القوة، صار غطاءً ناعماً للتوحّش، تماماً كما تفعل الديكتاتوريات حين تتزيّا بلبوس الدين.

لهذا، لا يمكننا أن نتعامل مع إرث التنوير كقُدس أقداس، بل كحقل يجب تفكيكه. لا ننسف مبادئه، لكن نُخضعها للاختبار. لأن التاريخ أثبت أن أكثر الشعارات نبلاً، يمكن أن تتحوّل، على أيدي أصحابها، إلى أقنعة قمع جديدة.

سؤال أخير: لماذا علينا أن نبقى حرّاساً أوفياء، بل متشدّدين، لفكرة، كان صاحبها الذي أنتجها وصدّرها للعالم، هو أول من خانها ومارسها بانتقائية؟

 

قيم المنشور!

نتیجة 5.00
باسمة القصاب

باسمة القصاب

نصف جناح ونصف جسد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  • ×
    تسجيل الدخول / العضوية