» مقالات » في الأمل.. فنُّ البقاء
مقالات

في الأمل.. فنُّ البقاء

16 أغسطس، 2025 30122

وسط كل هذا الانهيار الكوني الذي نشهده؛ التداعي المرعب للقيم، واعتلاء الشرّ منابر السياسة والإعلام بلغة عالمية. هل من زاوية أمل؟

حتى في أحلك اللحظات، كان الأمل، صمّاماً للوجود الإنساني. إنه ليس مجرد شعور حالم أو تمنّي ساذج، بل فلسفة وجودية تُجسِّد إيماناً مطلقاً بأن الكون، في نهاية المطاف، منحازٌ بطبيعته للحق والخير. 

هذه الفكرة ليست وليدة العقل الديني فحسب، بل حكاية تتكرّر عبر العصور والثقافات: من أساطير الخلق القديمة إلى النبوءات السماوية، ومن صراعات التاريخ إلى معارك اليوم. جميعها تتشبّث بفكرة “المنقذ”، أو “البطل المخلّص”، سواء جاء اسمه في صورة نبي، أو إمام، أو ملك عادل، أو حتى شخصية أسطورية، لكنها تتفق في جوهرها حول النهاية العادلة في هذا العالم. إنها فكرة خلاصية، قد يراها البعض أسطورة أو وهماً غيبياً، لكن على المستوى الوجداني، هي فكرة عبقرية؛ لأنها تُبقي جذوة الأمل مشتعلة في قلب الإنسان، حتى حين يبلغ أقصى درجات البأس والضر المزلزل.

هذا الإيمان يجعل النفس البشرية في حالة تعلّق دائم بالفرج، لا تستسلم لليأس مهما بلغ السواد مداه. حتى فكرة نهاية العالم، التي لا يعرف أحد متى تحلّ، يصبح غموض موعدها في حدّ ذاته محفّزاً على التمسك بالأمل، لأن الإنسان، ما دامت أنفاسه تصارع الحياة، يظل يرجو أن يكون حاضراً لحظة تحقق العدالة الكبرى. لهذا يعيش حتى آخر عمره في حالة ترقّب، لا انكسار. تصير انكساراته مجرّد محطات، أما الأمل فهو نهج ثابت، يولّد الصمود، ويغذّي المقاومة، ويدفع إلى المضيّ في الطريق حتى النهاية. هذا ليس كلاماً نظرياً، بل حكايات من يومنا هذا، نشهدها في غزة ولبنان واليمن، أحياناً بشكل اسطوري قد لا نصدقه، لولا أننا نراها بأعيننا على الشاشات كل يوم. 

الأمل هنا ليس مجرّد حالة شعورية، بل فنّ البقاء حين تنقلب كلّ المعادلات، حين يصل بك الإعياء مداه، وأنت محاصر بالمكذبين والمرجفين والحاقدين، يأتيك القرآن ليشدّك: ﴿حَتّى إِذَا اسْتَيْـَٔسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا)﴾ (يوسف: 110). إنّه فلسفةُ مقاومة؛ بينما تظنّ أن العالم قد انطفأ من حولك، تظلّ واثقًا أنّ الله معك في الساحة، يجمعُ لك النصر. 

في المقابل، عندما يُقتلع الأمل من الجذور، كما في الفلسفات المادية التي ترى الوجود صدفة عابرة، أو يغيب الإيمان بفكرة العدالة الكونية أو غائية الوجود -سواء لدى الأفراد أو المجتمعات- قد يصبح الواقع عبئاً ثقيلاً يُضعف القدرة على المواجهة. فبدون سرديات كبرى تُفسّر المعاناة أو تعد بالخلاص، يختزل العمر في لحظة عابرة بلا بوصلة. وهذا قد يدفع بعض النفوس إلى العدمية أو فقدان المعنى. تُظهر بعض الدراسات أن المجتمعات التي تعاني من فراغ روحي أو أزمات وجودية غير مُجابة، غالباً ما ترتفع فيها معدلات الاكتئاب والانتحار، كتعبير عن فقدان الأمل في حاضرٍ لا يطاق، أو مستقبلٍ غير مؤمَّل. 

حين يغيب الإحساس بالغاية، ويتبخر الإيمان بقصة تُبرّر الصبر وتغذّيه، يصبح الفراغ الوجودي هو الساحة الوحيدة التي يقف فيها الإنسان وحيداً، محشوّاً باليأس.  

الانتظار، لا يعني أن نحيا حياتنا كلها في ترقّب أمل قد لا ندركه. الأمر ليس بهذه السوداوية. ففي حياتنا القصيرة، رأينا نماذج حكايات انتهى فيها الشر إلى زوال، وانتصر فيها الحق، ولو جزئيا. هناك انتصارات وهزائم صغيرة في حياتنا اليومية، وأخرى كبيرة تهزّ العالم. هذه معركة لا تنتهي، وفي كل حكاية ثمة هزيمة وثمة انتصار. وما زلنا نرى، كيف تنقلب “كارما الشر” على أصحابها، فتحوّل جبروتهم إلى سقوط، وفسادهم إلى لعنة تلاحقهم، وأمثلة التاريخ أكثر من أن تُحصى. حتى في المعارك الخاسرة، يبقى الأمل هو الذي يحوّل الهزيمة إلى درس، والدم إلى بذور لجيلٍ قادم.

أما النصر الكبير والنهائي، بمعنى القضاء على قوى الشر الكبرى المهيمنة على العالم، فهو أشبه بخاتمة ملحمية لمسلسل العالم الطويل. قد لا نكون نحن من يشهدها، لكن مجرد الإيمان بأنها آتية لا محالة، وأننا قد نكون هناك حين تأتي، يجعلنا جزءاً من رحلتها، جزءاً من معركتها، لا من جموع المتفرجين السلبيين. وبين المعارك الصغيرة والانتصارات الجزئية، ينبض الأمل حيّاً، فاعلاً، مؤثراً، لا كفكرة مؤجلة، بل حضور يلهمنا أن الشر، مهما تعاظم، لن يكون أبداً الكلمة الأخيرة.

الأمل.. أن تزرع، حتى لو علمت أن الثمر ليس لك..

 

اللوحة.. من مجموعة فردوس البقاء للفنان عباس يوسف.

قيم المنشور!

باسمة القصاب

باسمة القصاب

نصف جناح ونصف جسد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  • ×
    تسجيل الدخول / العضوية