» مقالات » البكاؤون يحرِّكون العالم
مقالات

البكاؤون يحرِّكون العالم

6 يوليو، 2025 501,001

لم أكن أرى اللطم والبكاء الشيعي إلا شكلاً من أشكال الغرق في الحزن، ممارسة وجدانية تحوم حول المأساة وتعيد اجترارها، تُشبِع العاطفة لكنها لا تغيّر الواقع. كنت أنحاز إلى المعاني العميقة لكربلاء بوصفها موقفًا وتحدّيًا وخيارًا أخلاقيًا، أكثر من انحيازي لمظاهر الحزن الجماعي والانفعالات الشعائرية.

لكن ما عشناه بعد 7 أكتوبر 2023، جعلني أستدير بنظري وقلبي. فجأة بدا اللطم والبكاء شيئًا آخر، لم يعد بكاءً درامياً يستهلك المشاعر ويستنزف الطاقة، بل انبعاث للغضب. هو ليس بكاء ولطم فجائعي بالمعنى الدرامي أو العاطفي السلبي، بل تأجيج للرفض وإعلان الموقف، إشعال الحرارة التي لا تسكت في القلوب، 

تشعل فيك حرارة البكاء، مسؤولية أن تكون في الموقف لا على هامشه، أن تختار لنفسك طريقاً، حين تحاصر بين السِّلة (سلّ السيف وإخراجه للقتال)، وبين الذلّة، أن ترفع رايتك وتشهر سيفك وتقوم. 

بالنسبة لي، كان ذلك بمثابة انكشاف جديد في المعنى، أو لعلّه استيقاظ.

اللطميات الفجائعية التي كنت أراها صوت نحيب، هي نبض يخرج من الحناجر ليطرق عمق الوعي، ويهزّ ضمير الإدراك. كل صفعة تُضرب على الصدر، كل دمعة تنزل، لم أعد أراها تجلياً للحزن فقط، بل إعلاناً صريحاً للرفض، وإشعالًا لحرارة لا تخمد في القلب.

إنه تجييش وجداني للموقف، كما لم أفهمه من قبل. ممارسة تحوّل الداخل إلى طاقة، امتلاء، لأنك من دون امتلاء الداخل، لا يمكنك أن تحتمل قسوة الخارج ودناءته. كيف نتحمّل مشاهد الذبح والعدوان، الظلم والحصار، الخيانة والتطبيع، إن لم يكن فينا شيء يُستفز ويشتعل ويجعلنا نقول: لا.

اللطم والبكاء هنا فعل مقاوم، لا على هامش الحدث، بل في قلبه. وهنا تحضر عبارة الإمام الحسين: “ألا ترون أن الحق لا يُعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه؟”. البكاء هو إقرار بهذا المشهد، وهو الموقف ضده. هو رفض لأن نصير عمياناً عمّا يحدث، أو خرساً أمام من يريدوننا أن نصمت.

وهو ما يجعلنا نرى أن من يتم وصفهم استهجاناً واستهزاءً بالبكّائين واللطّامين، هم، دون غيرهم، من ثارت غيرتهم على ما يحدث في غزّة، وهم من فزعوا من أجلها، من غضبوا لنصرتها، من قاوموا، وحاربوا، وخرجوا، ودفعوا أبهظ الأثمان، وأرواحهم فداءً.

هم دون غيرهم -ممن يسخرون من عدمية هذا اللطم، ويجدونه عبثاً أو جنوناً أو غرقاً ساذجاً في الحزن- الذين امتلأوا من الداخل بتجربة كربلاء، حتى إذا حانت لحظة القرار، لم يترددوا. كانوا حسينيين، لا في الذكرى فقط، بل في المواجهة، في التضحية، في الصمود، وفي اختيار “السِّلة”، عندما اختار غير اللطامين وغير البكائين “الذِّلة”.

لقد غيّرني العام الأخير. رأيت أن طاقة البكاء، لا تُحبس في الدموع، بل تصعد في الموقف. تُحشد الأرواح لتقديم أنصع صور البطولات وأنقاها، لعلها تُنعش قلب العالم، الذي يوشك على التوقف. هذا ما لم أكن أفهمه، بل علّمتني إياه كربلاء حين نبضت من جديد في قلب غزة.

قيم المنشور!

نتیجة 5.00
باسمة القصاب

باسمة القصاب

نصف جناح ونصف جسد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  • ×
    تسجيل الدخول / العضوية