» PDF » باسمة القصاب: لَن أَشربَ مِن بُحيرةِ الجماعَاتِ مرّتَين
PDF - حوارات

باسمة القصاب: لَن أَشربَ مِن بُحيرةِ الجماعَاتِ مرّتَين

6 أغسطس، 2022 80406

نسخة الهاتف pdf حوار عقيل الموسوي مع باسِمة القصّاب

صحيفة الصباح العراقية. 16 أكتوبر 2022

أجرى الحوار: الروائي عقيل الموسوي

أثناء اشتغالي على رواية تنظر بمجهر في نسيج البحارنة، وتسلّط الأضواء على جماعاتها المختلفة، وما يجري بينها من تصادم أحيانًا، كان لا بدّ لي من وقفة مع تلك الجماعة المثيرة والغامضة، جماعة الأمر، المعروفة شعبيًا باسم جماعة السفارة. تبدأ الإثارة منذ تشكلت الجماعة في زنزانات السجن في الثمانينيات، والإرهاصات التي تلت ذلك بعد خروج المؤمنين بها من السجن، ثم ظهورهم من السر إلى العلن، وتأسيس جمعية التجديد الثقافية عام 2002.

تقوم الجماعة على فكرة بسيطة وخطيرة في الوقت نفسه، وهي أن زعيمها، حسب زعمها، له اتصال بالإمام المهدي، ويتلقّى منه تعليمات لتنظيم الجماعة. وبسبب الغموض الذي يلفّ الجماعة، لم أجد مصادر موثوقة عنها، إلا أولئك الذين خرجوا منها، وكتبوا تجاربهم. هناك ثلاث تجارب مختلفة متوفرة للباحثين. اثنتان على شكل حوارات أجراها الباحث الدكتور علي أحمد الديري المهتم بفهم جماعة الأمر منذ أكثر من عقدين من الزمن.

الحوار الأول عام 1999 مع نرجس طريف حول تجربتها وخروجها من جماعة الأمر، وهو منشور على مدونة الباحث (هوامل الديري)، كذلك ضمّنته في كتابها (الخديعة الكبرى) الصادر عن دار المحجة 2008، ذهبت فيه بعيدًا في كلام مرسل من غير دليل لتقول إن جماعة الأمر عميلة للمخابرات الأمريكية.

الحوار الثاني عام 2022 مع ياسر ابن الشيخ إبراهيم الجفيري الخارج أيضاً من الجماعة، وهي تجربة من صميم داخل الجماعة، تنطلق من مبدأ أن الخارج من جماعة الأمر ينبغي عليه أن يعلن توبته، ويتبرأ من الجماعة ويفضحها لكي تُقبل توبته.

وهناك التجربة الفريدة للكاتبة باسمة القصاب التي نشرتها في مقالات في جريدة الوقت قبل 16 عاما، وأصدرتها في 2007، في كتاب تحت عنوان (كالتي هربت بعينيها، جماعة الأمر وتشكلات الذات المغلقة). أعادت نشرها مؤخراً، بعد أن أضافت إليها فصلاً سردياً كاملاً، هو الفصل الأول الذي امتد قرابة 90 صفحة، صدرت عن دار فراديس 2022. وثّقت تحولاتها الروحية، والرحلة الطويلة إلى داخل الجماعة بكل عنفوان الإيمان، ثمّ مرحلة الشك، وأخيرًا شجاعة الخروج من الجماعة. ثمة أمور فكرية وفلسفية مهمة طرحتها الكاتبة باسمة أغرتني للمزيد من النقاش معها.

الحوار الذي بين أيديكم، هو نتاج ما دار بيننا..

الأدب والرأي 

عقيل الموسوي: بدايةً، رُبّما كان مُناسبًا أنْ نتذكّر بورخيس الَّذِي يقول: إنَّ الأدبَ أعمقُ من آرائنا، وأنَّ هذهِ الأخيرةَ يمكنُ أن تتغيَّرَ وأنَّ أدبنا لن يتغيَّرَ لأجل ذلك. وعليه سأتعامل مع نصّكِ: “كالتي هَرَبَتْ بِعَينِهَا، جَماعة الأمر وتَشكُّل الذّات المُغلَّفة”، على أنَّه أدبٌ وليس رَأياً، أدبٌ نَكتُبهُ وننكتبُ فيه.

باسمة القصّاب: أجد في كلمة الأدب استفزازاً جميلاً للتوقّف عندها. كثيرون يعبّرون عن كتابتي بأنّها أدبيّة، وهذا أَمرٌّ مُحبّب إليّ، لكنّه في الوقت نفسه يُثير لديّ تساؤلاً عمّا يعنونُه بهذا الأدب. في العصر الحديث يجري التّعامل مع الأدب غَالباً على أَنَّه فنّ استعمال اللُّغة والصُّور البلاغيّة، أي الجانب الجمالي، لكنّ الأدبَ في مفهومه التُّراثي أعظمُ من هذا بكثير، ويرتبطُ بالسُّلوك والأخلاق، إضافة إلى جمال اللُّغة.

كان الأدبُ مَوقِفاً أَخلاقياً من الحقيقة والخير، فضحٌ لِلهُرَاءِ والوَهْم والتَّزييف، تغيير وإصلاح، تهذيب وتعليم، ارتقاء بالفنّ والذّوق والأخلاق، الأدبَ كلّ هذا قبل أنْ يكونَ نظماً بليغاً. وإلاَّ كيف لممارسات مثل التّملّق، أو التّكسب أو الأَنانيّة أو الانتهازيّة أو التّحريض أو الوِشَايَة أنْ تليقَ بمَنْ يُسمّى أديبًا؟

عقيل الموسوي: كَأنّكِ تَشْرحِينَ بورخيس أكثر، وتَضَعِينَ تعريفًا بورخيسيًا للأديب؟

باسمة القصّاب: بالنسبة لي الأدبُ رُؤية، والرّؤية أبعد وأعمق من الرّأي. الأدبُ هو ما نُبلورهُ عبر رؤانا التي أَنضجتها تجاربُنا وعمّقتها بحوثُنا وقراءاتُنا وانشغالُنا واشتغالُنا وخُبراتُنا، أمّا ذلك الذي في غَفلٍ عن هذا كلّه يكون رأياً فقط؛ لهذا لا يُمكن أنْ نساوي بين عُمق الأوّل (الأدب) وبَساطة الثّاني (الرّأي).

في (كالتي هربت بعينيها) أروي تَجْرِبتي. ما تقوله التّجْرِبة هو رُؤية لا رأي. الرُّؤية مِفتاحٌ لقراءة الذّات والمجتمع. لهذا عندما ألّف ابنُ مسكويه كتاب (تجارب الأمم) وهو الفيلسوف والمؤرّخ والشّاعر، أراد عبر كتابه تقديم الرُّؤية التي تكوّنت لديه، فقد كان شاهد عِيان على دسائس السّياسة في دولة بني بويه في القرن الرّابع الهجري، أراد بما كتبه الإفادة من تجارب الأمم، والتّعلّم وأخذ العِبرة. فالبشر يُراكمون معارفَهم عبر قراءة تجارب الآخرين والتّعلّم منها ونقدها وتفكيكها. يفتح الأدب عينك الثالثة لترى ما هو أبعد وأعمق.

كذلك الأدبُ يخلق الحالة الحوارية في المجتمع، يُحرّكه ويجعله حيوياً، وحوارُنا هذا هو جزء من هذا الحِراك الجميل. لهذا أقول: إنّ الأدبَ هو رؤية ثقافية ومسؤوليّة أخلاقيّة.

المزاج الشيعي

عقيل الموسوي: صورة الإمام المهديّ المُنتظَر في الوعي الشّيعي العام حَاضِرةٌ على الدّوام، وليس عند جَماعة الأمر فحسب، وجديرٌ بنا أنْ نُضيفَ أنّه حين كتب الشّيعة أوّل دستور لهم إبّان ثورة المشروطة الإيرانية العام 1905، أكّدوا أنّ دستورهم سيلغي نفسه بنفسه لحظة ظهور الإمام المهديّ، فانتظار ظهور دولته العادلة، ليس مزاجًا سائدًا، إنّما هو عقيدة لدى الشيعة عامّة، ولدى الحوزات، الإخباريّة منها، وحتى الأصولية التقليدية. ومن تلك الأصولية التقليدية ظهرت مدرسة يُمكن أنْ نُطلق عليها بغير المصطلحات الحوزويّة اسم الأصولية الثّوريّة، التي كان من نتاجها الجمهورية الإسلامية، التي عشْتِ زمن فورتها الأولى، وشعارها: (إلهي حتى ظهور المهدي احفظ لنا الخميني). هل يُمكننا القول إنّه من السَّهل على الشّيعي في هذا المزاج العام أنْ يكون من جماعة الأمر؟

باسمة القصّاب: هذا سؤال مهم جداً. لا شيء يُوازي مركزية فكرة الإمام المهديّ في الثّقافة الشّيعية، وقد رأينا مُؤخراً التّعلّق الكبير والمُتأجّج بأنشودة (سلام يا مهدي) مثالًا يؤكّد ذلك.

في كتابي عمدتُ في الصفحات الأولى على وضع السّياق العام الذي نشأتُ فيه، منذ طفولتي حتّى انضمامي لجماعة الأمر في الثّامنة عشرة من عمري. حاولتُ رسم خريطة ذهنيّة لكيفية تشكّل وعيي بالإمام المهدي، بدءاً من الوعي الشّيعي الذي ساد إبّان انتصار الثّورة الإسلاميّة في إيران بشكل خاص، مروراً بالكُتُب والمؤلّفات والقِراءات التي صاغت هذا الوعي الجَمْعي، ورسّخت فكرة عصر الظّهور والدّولة الممهدة والنِّيابة الخاصّة وربطتها بإيران والإمام الخميني، وهذه كلّها مُنسجمة مع المنظومة الفكريّة المُؤسّسة لجماعة الأمر، لهذا قلت بأنه عندما عُرض عليّ الدّخول في الأمر كنت مُهيّأة لذلك تماماً.

عقيل الموسوي: تقولين: عُرِضَ عليّ، بصيغة المبني للمجهول. يُعجبني إصرارُكِ على عدم كَشف هُويّات مَنْ كانوا معكِ في الجماعة. أَنْتِ ترين إذاً أنّ التّكوين الشّيعي مهيأ لهكذا جَماعات؟

باسمة القصّاب: يجب الاعتراف أن هناك مداخلَ ومنافذَ خِصْبة في البيئة الشِّيعيّة لتكوين مثل هذه الجماعات. الدكتور عبد الجبار الرفاعي، المُفكّر العِراقي وأستاذ الفلسفة الإسلاميّة، عندما قرأ كتابي أرسل لي: “من الضّروري أنْ يصدر كتابُكِ في بغداد. الجماعات المهدويّة فتكتْ بالفضاء الاجتماعي الشِّيعي في العِراق”. أطلعني الدّكتور الرفاعي بعدها على نماذج لجماعات مهدويّة هناك أصبحت تُشَكِّلُ وضعاً مقلقاً، مثل جماعة (جند السماء) وجماعة (أصحاب القضية) وغيرها، جميعُها تدّعي التّمهيد لخروج الإمام المهدي وتهيئة أنصاره وأتباعه، وهي جماعات تمارس نشاطها بشكل علني ويمتد بعضها إلى خارج العراق.

أحد أبرز المنافذ التي يتمُّ الدّخول منها لتشكيل هذه الجماعات هي ادّعاء مشاهدة الإمام، وهنا يحفظ للفكر الشِّيعي تفاديه لخطورة هذا المنفذ، بإقفال باب ادّعاء المُشاهدة في الغَيْبة الكبرى، ويقصد بالمُشاهدة هنا، تلك التي تدّعي النِّيابة الخاصّة وإيصال الأخبار عن الإمام، هناك إجماع على تكذيب ادّعاء المُشاهدة بهذا المعنى. لهذا نجدُ أنّ هذه الجماعات لا تحظى بالقبول المجتمعي ولا بقبول المرجعيات الدينية الشيعية، وتشكّل أقليّة منغلقة على نفسها في العادة.

عقيل الموسوي: هذه الإشكالية في مركزية الإمام المهدي تحدّت، ولمدة قرون، قيام دولة شرعيّة للشيعة.

باسمة القصّاب: نعم، لذلك عندما قامت الثورة المشروطة (الدستورية)، كان الاعتراض كيف يقوم الشّيعة بكتابة الدستور وهم في عصر الغيبة ولم يشاهدوا الإمام ولم يتّصلوا به. من هنا احتاج الفكر الشّيعي أن يبتكر حلاًّ لا يتعارض مع فكرته المركزيّة، وفي الوقت ذاته تُمكِّنه من المساهمة في تحديث الحياة، والخروج من عصر الأقبية، وألّا يبقى واقفاً رهن الانتظار، هنا أيضاً يحسب للفكر الشّيعي حيوية عدم غلق باب الاجتهاد، ما جعله قادراً على التّكيّف مع مقتضيات العصر الحديث، فكان الخلاص الذي توصّلُوا إليه أنْ يضعوا دستوراً للدولة، على أن يلغي هذا الدستور نفسه بنفسه ما إنْ يظهر الإمام المهدي، وبهذا كُتِب الدّستور وانتقلت إيران إلى شكل الدّولة الحديثة.

المشاهدة

عقيل الموسوي: هل يمكن قبول ما يحدث للمؤمنين من رُؤيا، أو مُشاهدات، أو مُكاشفات مع الإمام على أنّه اتّصال لا شك فيه؟ فالرُّؤى قد يعدُّها البعض مجرد أحلام، والأحلام يُمكن أن تكون كوابيس، أو أضغاث؟

باسمة القصّاب: المشاهدة موضوع جوهري في تَجْرِبتي، لكن أفضّل الدُّخول إليها من خلال الفكر الصّوفي. في الفكر الصوفي هناك مَقامات للسالكين يصلون إليها عبر الرياضات الرّوحيّة، واحدة منها هي المشاهدة، ومقامات أخرى مثل: المكاشفات، والرُؤى والتجلّيات؛ هذه المَقامات حاضرة بقوَة في خطاب المُتصوّفة مثل النّفري والحَلاّج، والفلاسفة المتصوّفين مثل ابن عربي والسُّهْرَوَرْدي وأبوحيّان التوحيدي وغيرهم، ولهم حالاتهم في ذلك. لكن هذه المشاهدات لم تخرج يوماً عند المتصوفة من حيّزهم الخاص إلى الفضاء العام. بمعنى أن ما يشاهده السالك أو يصل إليه هو أمرٌ خاص به وحده، لا يلزم به أحداً غيره أو يجعله حجة عليه. وهذا ما يوضحه السّهروردي بقوله: “مشاهداتك ليست بحجّة على غيرك ما لم يكن له ذلك المِشعرُ والشعورُ. حدسياتك ليست حجّة على غيرك إذا لم يحصل له ما حصل إليك”.

وحدك هو المعنيّ. المشاهدة شيء خُصصت به أنت وحدَك، أراد الله أن يريك شيئاً فجعلك تراه وحدك. لهذا لا يمكنك أن تحوّل مشاهدتك إلى دعوة تُلزم بها غيرك أو تجعلها حجة عليهم، غيرك لم يشاهد ما شاهدته أنت، ولم يشعر بما شعرت به، ولم يصله ما خُصصت به، مشاهدتك حجّة عليك وحدك ولا يحمّلها غيرك. لهذا عادة ما يُخفي المتصوفة والسالكين ما يعيشونه من حالات وما يرونه من كشوفات ومشاهدات، وقد تُمرر من باب الاستئناس لبعض الخواص.

كذلك أنت عندما تشاهد من تعتقد أنه الإمام وتستفيئ بهذه المشاهدة وتستأنس بها، فهذا شأن يخصُّك وحدَك، لا شأنَ لأحد بتكذيبك أو تصديقك، لتعش تجليات حالتك كما تشاء. لكن تبدأ الخطورة عندما تنتقل مُشاهدتُك من الخاص (الذي هو أنت)، إلى العام (الذين هم غيرك من الناس)، فتأتي لتقول: لقد شاهدت الإمام في المنام، وقد وجه لكم (معاشر شيعتنا) عبر رؤياي أمراً أن تفعلوا كذا، أو أن تؤسسوا جماعة كذا، وأن تأتوا طائعين… الخ، هنا أنت أخرجت المشاهدة من حيّزك الخاصّ إلى فضاء (معاشر شيعتنا)، جعلت كل هؤلاء مشمولين ومسؤولين ومحاسبين عمّا رأيت أنت وحدك دونهم – مع افتراض صدق المشاهدة-.

كيف أخرجتَ المشاهدة التي هي في أصلها تجلٍّ روحي شفيف، إلى صرامة الفرض؟ كيف صيّرتها أمراً نافذاً على من لم يشاركك المشاهدة ولا المشعر ولا الشعور؟ كيف جعلتها حجّة قائمة وواجباً ملزماً للجميع؟ وكيف تؤنبني بأني سأكون محتنكاً بالشيطان إن شككت في حلمك؟ وترهبني إني سأعضّ سبابة ندمي إن رفضت الانصياع لحلمك؟

ثمّ كيف تأتي بعد كل ذلك، لتنادي (في الظاهر) بإعمال العقل، وتحريره من الخرافة واللا معقول، والتبعية العمياء، فيما أنت تريد مني أن أنصاع لحلمك وأطعك طاعة عمياء دون أن أعمل عقلي؟

لم أكن أملك هذا الوعي حينها. في السنوات الأولى تمّ تحصيننا بترسانة كبيرة من الكتب التي تروي حكايات لأناس سالكين شاهدوا الإمام المهدي، هذه الترسانة عملت مصدّاً ضد حرب الخارج التي استعانت بدورها بترسانة الروايات والأحاديث المكذّبة لادعاء المشاهدة. لكن ما لم يلتفت له وعيي آنذاك، أن جميع الحكايات التي استُخدمت لتثبيتنا كانت تروي مشاهدات فردية تخصّ أصحابها وحدهم، بل إن أصحابها كانوا يتحاشون حتى الإخبار بها، ولم تخرج هذه المشاهدات من نطاق الخاص (الشخص) إلى نطاق العام (الناس)، لم يحوّل هؤلاء مشاهداتهم إلى دعوة أو أمر أو جماعة أو تنظيم، لم ينصّب أحدهم نفسه باباً للمولى ووسيطاً بينه وبين الناس. الآن أنا أستعيد ذلك وأرى كيف لم ألتفت إلى كل هذا آنذاك!

مِلل الجماعات 

عقيل الموسوي: لجماعة الأمر تنظيم هَرَمي، يبدأ بالإمام، ثُمّ الوكلاء الخمسة ومنهم باب المولى، ثم الأتباع الذين يتوزّعون في سلّم تنظيمي بحسب درجاتهم من الأعلى إلى أسفل الهرم. هذا إلى جانب تصنيف النّاس إلى خاصّة تستطيع حمل السّر الكبير، وعامّة لا تقدر على ذلك. ألاحظ في هذا التنظيم شبهًا إسماعيلياً، تلك الطائفة التي انسلّت من الشيعة، ولها إمام حيّ، كان محجوبًا فترة من الزمن بسبب الأخطار المُحدِقة به، ثم ظهر ليباشر إدارة جماعته. لا أقول هذا من باب الإساءة لجماعة الأمر لأن الشيعة الاثني عشرية يعدون الإسماعيليين مَلاحدة، لكني أتناوله من باب المقارنة التّاريخيّة لجماعات الشّيعة.

باسمة القصّاب: هذا صحيح، هناك شَبَه ٌبين جماعة الأمر والطّائفة الإسماعيلية في بدايات تأسيسها، انشقت بإمامها عن الطّائفة الشّيعية وكوّنت فرقة دعوية سرّية مغلقة تتمحور عقيدتها حول الإمام، ولديها تنظيم هرمي مشابه: الإمام في قمّة الهرم، ثمّ الدّعاة الذين يُمارسون الدّعوة باسم الإمام، ثم سلّم الاتباع الذين تتم دعوتهم بشكل سرّى وبانتقاء مدروس. كما تعرضت لاضطهاد الدولة العباسية، ما أبقاها في التقية وإخفاء عقيدتها، حتى تمكنت من تأسيس الدولة الفاطمية، عندها أعلنت دعوتها وتحوّلت طائفة، قبل أن تنشق عنها الاسماعيلية النزارية التي أسست دولتها في قلعة الموت.

حدث كلُّ هذا في منتصف القرنين الثاني والثالث الهجريين (القرن الثامن الميلادي)، ومن المهم أن نقف عند هذا التوقيت الزمني، حيث ما زالت المذاهب الدينية تعيش إرهاصات تكوّنها وتشكلها، ولم تكن المذاهب قد استقرّت ولا الطّوائف الدّينيّة. قرون صاخبة بتكوينات الملل والنحل وصراعاتها ومقالاتها (مقالات الإسلاميين للأشعري)، واعتقاد كلّ فرقة أنّها النّاجية التي تمثّل الإسلام الصحيح. هناك عبارة لأبي حيان التوحيدي تلخّص ما بلغ به حال المسلمين من فرق وطوائف خلال هذه القرون: “وصار الناس أحزابا في النّحل والأديان: فهذا نصيريّ، وهذا إسحاقي، وهذا جاروديّ، وهذا قطعيّ، وهذا جبّائيّ، وهذا أشعريّ، وهذا خارجيّ، وهذا شعيبيّ، وهذا قرمطيّ، وهذا راونديّ، وهذا نجّاريّ، وهذا زعفرانيّ، وهذا قدريّ، وهذا جبريّ، وهذا لفظيّ، وهذا مستدركيّ، وهذا حارثيّ، وهذا رافضيّ، ومن لا يحصي عددها إلّا الله الذي لا يعجزه شيء”.

كان هذا هو الحال آنذاك، لذلك لم يكن غريباً أنْ تنشأ جماعات جديدة وطوائف جديدة وفرق جديدة ودول مؤسسة على هذه العقائد، لكن لا يمكن الآن ونحن في القرن الحادي والعشرين وقد خُتمت الأديانُ، وحُسمت المذاهبُ، أن نتحدّث عن تكوينات وفرق مذهبية جديدة، وكأننا نعود مرّة أخرى إلى القرن الثاني الهجري.

لقد انتهت المذاهب الكبرى من تثبيت نفسها وتأصيل وجودها، ومهما تكن رؤيتنا المعرفية والنقدية حول تاريخها وتشكّلها، فإنّها الآن راكسة في واقعنا وصار لها جذورها وامتداداتها العريضة، واستطاعت بعد قرون من الصراع والانغلاق، وتحت ضغط مقتضيات العصر الحديث، أنْ تكيّف نفسَها مع الحاضر، وأنْ تحيّد علاقتها بالآخر وإنْ على مضض.

لا يمكن الآن بعد كل هذا التاريخ التي مرّ به الإنسان، وكل هذه التجارب والأحداث، وما وصل إليه عقل الإنسان وتجربته من نضج، أن يعود بالزمن إلى الوراء، ويؤسس أديان غامضة جديدة، أو فرق دينية ما ورائية جديدة، أو طوائف غيبية جديدة، أو انشقاقات سرّية جديدة، أو جماعات مغلقة جديدة. هذه الآليات القديمة للتكوينات البشرية كانت ملائمة لوعي ذلك العصر، لكنها لم تعد مقبولة في العصر الحديث ولم يعد يقبلها عقل الإنسان الحديث. تماماً كما لا يمكن أن نعود إلى عصر ركوب الدواب بعد أن وصلنا إلى عصر الطائرات النفاثة، أو العودة إلى التواصل عبر رسائل البريد الورقية بعد أن وصلنا لما نحن فيه من شبكات الاتصال الحديثة ووسائلها.

عقيل الموسوي: هناك مَنْ يزعم أنّ الجماعات المهدوية هي نوع من السّلفية، فلا هي تأتي بفكر جديد، ولا منظومة دينيّة جديدة.

باسمة القصّاب: هذا صحيح من جانب، وغير صحيح من جانب آخر، فهي وإنْ كانت تنطق من خلال المنظومة الشّيعية العامّة التي هي جزء منها، إلاّ أنّها تأتي لتقول لهذه الطّائفة إنّ إمامك المهدي الذي تنتظرين ظهوره قد ظهر لي أنا، واختصّني أنا بالمشاهدة دونك، وجعلني باب سرّه دونك، واصطفاني لأمره دونك، وخوّلني أنْ أقولَ عنه دونك، واجتباني بنصّه وتعاليمه وغيبه وعلمه وبيانه ونصوصه، وجعلني خاصّة اتباعه دونك، نحن الخاصّة وأنتم العامّة، نحن تحرير العقل وأنتم أغلال العقل، نحن المعرفة وأنتم الخرافة، نحن الحقيقة وأنتم الضلالة. هكذا تأتي هذه الجماعات لتنصّب نفسها مذهباً فوق مذهب وطائفة داخل طائفة، وكأنها تقول: أنا الدين الجديد وأنتم الدين البالي.

ربما الجماعات المهدوية الآن أقرب إلى ما يعرف في المجتمعات الغربية بجماعات الكالت (Cult)، وتعني الطوائف الدينية أو العبادية غريبة الأطوار، وهي جماعات بدأت تتكاثر في العالم الغربي وتشكّل حضوراً مقلقاً وصار ينظر إليها بشكل مريب. لهذا هناك توجه كبير لدراستها وتفكيكها، أحد أهم الكتب الذي تناولها بالدراسة هو (Cults in Our Midst: The Hidden Menace in Our Everyday Lives)، بمعنى (الطوائف في وسطنا: التهديد الخفي في حياتنا اليومية)، وهو من تأليف (مارجريت ثالر سينجر)، عالمة نفس وكاتِبة وطبيبة نفسية أمريكية. تتحدث عن المجموعات الكبيرة التي نشأت في المجتمعات الغربية، تتراوح بين طوائف حميدة نسبيًا، إلى تلك التي تمارس سيطرة غير عادية على حياة الأعضاء وأفكارهم. هذه الجماعات تتشابه في طريقة نشأتها وهيكل سلطتها وحكمها، وتتمحور بإيمان شديد، حول فكرة أو شخص لديه سمات نفسية وقدرة على التأثير والإقناع والإيقاع، ويدعي أن لديه مهمة مقدّسة أو معرفة خاصة يشاركها مع أولئك الذين يطيعونه ويسلمونه قراراتهم.

الداخل والخارج

عقيل الموسوي: توقعَتْ لكِ الجماعة “كهاربة من أسر الله إلى عبودية الأنا” أنْ تفقدي سلامك الداخلي وتشقين، مثل آدم الذي طُرد من عز الجنّة إلى شقاء الأرض. ولكن هناك ذلك الحلم، “الرؤيا” التي أرسلها لك أحد وكلاء الأمر، حين رآك خارج سور الجماعة، فقال: الويل لمن يمسها بسوء!. هل يمكن فهم هذه النبوءة الأخيرة بشأنك، بأنها توحي بحماية الجماعة لك، حتّى وأنت خارجها، وهل تعني بأن علاقتك بالجماعة طيّبة؟

باسمة القصّاب: من الطبيعي أن علاقتي بالجماعة انتهت بالخروج، الجماعة فكرة وعندما تغادر الفكرة لا يعود لك مكان فيها. حتى العلاقة الوطيدة التي كانت تربطني ببعض أفراد الجماعة انتهت، منهم على سبيل المثال (أختي الكبرى)، فبعد فترة من نشر حلقاتي في صحيفة الوقت، التقيتها مصادفة في مجلس عزاء، وعندما ذهبْتُ للسلام عليها وتقبيلها قالتْ لي: “لكِ عين بعد تقبليني؟” فانسحبتُ بهدوء.

كثيرات أخريات يتحاشين النظر ناحيتي إذا صادف وجودنا في مكان عام، وحين أبادر بالسّلام يرددن بفتور قبل أن يغاورْنَ، اتفهّم ذلك بطبيعة الحال، قليل جداً أن تقابلني إحداهنّ بحفاوة طبيعية كما في السابق. على مستوى العلاقات، بقي لي تواصل مع اثنتين فقط، هما الصديقتان اللتان انضمتا إلى الجماعة عبري، مازالتْ علاقتي وطيدة بإحداهنّ حتى الآن، وهي لم تقرأ كتابي، ونحن لا نتحدّث عن الجماعة عندما نكون معاً، ولدي سعة أن أكون كذلك مع أيٍّ من أفراد الجماعة، لكن هذا لا يعني أن لا أقدّم قراءتي الناقدة لتجربتي وللجماعة في الفضاء العام، ويبقى لكل إنسان ما يختاره لنفسه.

بخصوص الحلم، كان ذلك قبل مغادرتي الجماعة بوقت قصير، أريدَ بالحلم تأثيم أفكاري التي راحت تخرج عن رسم الجماعة، وتأنيب تسللي الذي صار يحرّك الأسئلة ولا يقنع بالإجابات. هنا كان لا بد للجماعة من استعادة ثنائية الداخل والخارج المعروفة: الخارج الشيطان، والداخل الملائكي، الخارج الذي هو لعب وسوء وشرّ وسوء، والداخل الذي هو خير وأمن وحماية من سوء الخارج.

عقيل الموسوي: التأنيب كذلك يصاغ على هيئة حلم؟

باسمة القصاب: إنه الأخطر هنا، أن يصاغ التأنيب على لسان الحلم لا لسان الشخص، هذا يجعل التأنيب يحظى برمزية أكبر عند الفرد المنتمي للجماعة. لأن الحلم هو أصل الجماعة ومؤسسها، أمرها المقدّس، نصّها الذي به نؤمن ونصدّق، وإليه نمتثل ونطيع، ومنه نحذر ونخاف.

الحلم هو منبع قوّة هذه الجماعة، ومنبع إخضاع أفرادها ونيل طاعتهم، هو الغيب الذي يقول عنّا، هو الأعلم بنا منّا نحن الذين لا نرى. لهذا كان الوكيل في محاولته الأخيرة، يحاول استرجاعي عبر قوّة الحلم فينا، لكني كنت حينها قد تجاوزتُ سطوة الحلم، وصرت أرى بعينيّ، لا بعيني الحلم.

عقيل الموسوي: رَاقَ لي أن انغمس في تجربتك، حتى أني رحتُ اتصفح على النت نتفًا من الكتب التي قرأتها، وكانت جزءاً من تأهيلك لدخول الجماعة، مثل: كتاب (الجزيرة الخضراء ومثلث برمودا)، لناجي النجار، وكتاب (بناء القادة في منهج أهل البيت)، للشيخ محمد فوزي.

باسمة القصّاب: إذا أنصحك كذلك بمشاهدة القرية (The Village) إنتاج 2004، وهو فيلم أمريكي من تأليف وإنتاج مانوج شايملان، أحد أجمل الأفلام التي شاهدتها بعد مغادرتي الجماعة بوقت قصير. يروي حكاية قرية صغيرة تعيش وسط محمية من الغابات المعزولة عن الخارج بسور كبير. عدد صغير من العوائل المتكاتفة والمتحابة اجتماعياً، لكنها ترتجف رعباً من وحوش تتربّص لها خارج حدود القرية.

يعيش أهل القرية اعتقادهم بمخلوقات يخافون حتى تسميتها، يعرَّفونها فيها بينهم بـ «أولئك الذين لا يسمون». تتربّص الوحوش بمن يحاول تجاوز القرية نحو سور الخارج، وتشهد القرية إشارات مخيفة ترعبهم، وقد يداهم أحد هذه الوحوش في حال حدث تجاوز ما. تدار شؤون القرية من خلال مجلس (الكبار)، هم ذاتهم أرباب هذه العوائل، يقومون بتلبية احتياجات القرية مستغنين عن الخارج.

ينشأ الجيل الجديد وفق تعاليم الكبار التي يعلّمونها لهم والتي لا تخرج عن ثنائية خير الداخل وشر الخارج ذاتها، حتى تبدأ مجموعة من الاختراقات تحدث على يد الجيل الشاب، الذي رأى حاجة القرية إلى جلب الدواء من الخارج. تتصاعد الأحداث التي تحبس الأنفاس، لنصل في النهاية إلى أن الوحوش ليست سوى وهماً كبيراً، وإن أعيان القرية الكبار هم صانعو هذا الوهم الكبير وهم منفذوه، الوحش ليس سوى لباس مخيف صنعه هؤلاء الكبار، وهم بالمناسبة مجموعة من الأكاديميين والمثقفين رجالاً ونساء، قرروا اعتزال المدينة بعد أن تعرّض كلُّ منهم لحكاية مؤلمة ومفجعة لم يستطع تجاوزها، فتركوا وراءهم العالم الذي يرونه عاجاً بالبشاعة والشر، واختاروا هذه القرية الصغيرة النائية. ولكي يحافظوا على براءة الداخل من تلوث الخارج، ابتكروا حكايتهم التي عاشها يقين أهل القرية، وصارت دفناً لحياتهم داخل الوهم.

المفارقة، أن فتاة عمياء (مبصرة) كانت هي من اخترقت هذا الوهم الكبير، ونجحت في اجتياز السور نحو الخارج، وجلب الدواء للقرية.

الباطن والظاهر

عقيل الموسوي: إذا ما سلمنا بحقيقة أنّ جماعة الأمر هم جماعة باطنية، لها نظرتها، أو طرائقها الخاصّة، لتأويل الأمور على نحو باطني، وإذا ما سلمنا بحقيقة أن الظاهر ليس نقيضًا للباطن، بل مكمللٌ له، فالباطن والظاهر اسمان من أسماء الله الحسنى. كيف رسمت الجماعة طريقها بين المدرستين المختلفتين؟

باسمة القصاب: من الصعب أن نتحدّث هنا عن ظاهر مكمّل للباطن بالمعنى العِرفاني، والذي يكون فيه الظاهر من تجليات الباطن. نحن هنا لدينا (ظاهر) يحاول التكتّم على (باطن)، أو ظاهر يَظهر بغير باطنه. هو يريدك أن تقفز على باطنه إلى ظاهر ما يقول لسانه. أظنّ أننا ما زلنا هنا في ثنائية الداخل والخارج أيضاً، فداخل الجماعة كلّه باطن، وخارجها كلّه ظاهر.

باطن الجماعة هو ما نراه نحن الذين في الداخل ولا يراه الآخرون، وظاهرها هو ما يراه الناس في الخارج أو ما تُظهره لهم الجماعة. في الظاهر (الخارج) نحن ننادي بإعمال العقل وتحريره من الخرافات والأساطير وتحرير المفاهيم، وفي الباطن (الداخل) نحن نمتثل للأوامر والتوجيهات والتعليمات والأفكار التي تصل إلينا من الرؤى، والأحلام، والطرائق الغيبية والتأويلات الغنوصية. في الظاهر نحن ندعو إلى التحرر من التبعية وتسليم عقولنا إلى غيرنا، وفي الباطن نحن نمارس الطاعة المطلقة للوكلاء والتسليم المطلق لما يصلنا من النصوص والتّعاليم. في الظاهر نحن نقول بحرية الفكر واحترام الرأي الآخر، وفي الباطن نمارس وصايتنا على أفراد الجماعة ضد أيّ رأي يرونه خلاف رأيها أو فكرها. هكذا تسير العلاقة بين باطن الجماعة وظاهرها وفق ما أرى.

جريان النهر

 عقيل الموسوي: الأفكار الكبيرة تحتاج إلى جدل عميق، وفي عملك استشهادات كثيرة بنصوص مهمّة، وقد أخذتنا تجربتك في رحلة شيقة مع متصوفة مثل: أبي حيّان التوحيدي، والسهروردي، وابن عربي، ومع مفكّرين مثل: أركون وأدونيس، وديديه أنزيو، وفرويد، وعلي حرب، وجورج ماي، وواصل بن عطاء.

باسمة القصاب: كل واحد من هذه الأسماء هو نهر يجري، نهر تحبّ أن تشرب منه وأن تستحمّ فيه، نهر تحبّ أن تقف عنده وتنصت إليه. صوت النهر يلهمك ويعلّمك فنّ الإصغاء. عند كل واحد من هؤلاء كانت لي وقفة ورؤية، وما زلت أذهب لبعضهم بين حين وآخر -الفلاسفة المتصوفة بالذات- حين أطمع في إصغاء يرخي العقل والروح معاً. أتنفّس بعمق، ثم أمضي. أفعل ذلك دون أن أسكن في أي منهم، لأن السكن (سكون) آخر.

عقيل الموسوي: سبق وأن تحدثنا عن الفكر الصوفي، هل أفهم من حماستك للمتصوفة أنهم سيكونون مشروع كتاب قادم لديك؟

باسمة القصاب: من الجميل أن كتابي الجديد الذي انتهيت منه مؤخراً، هو منادمة فكرية مع أبي حيّان التوحيدي. الفيلسوف الذي قالت لنا الجماعة سرّاً، إنّه ألّف كتاب (الإشارات الإلهية) بعد أن تلقّى إشارات من المولى واهتدى إلى أمره، وهو كتاب أشبه بمناجاة ورسائل ونصائح صوفية، وإن ذلك ما جعله يحرق كل ما كتبه في السابق، لأنها كتبت عندما كان غارقاً في الجهل والضلال.

هذا الأمر، جعل حاجزاً نفسياً بيننا كأفراد داخل الجماعة، وبين كتب التوحيدي الهامة والمشهورة مثل: (الإمتاع والمؤانسة)، (الهوامل والشوامل)، (الصداقة والصديق)، و(المقابسات). لم نفكّر أن نطّلع عليها ولو فضولاً، لا أقل من أن نقارن مؤلفات (الجهل) بمؤلفات (الإشارة). صرنا لا نعرف من التوحيدي غير إشاراته، ولا نعبأ بكتبه الأخرى، تلك التي وجدتُ فيما بعد أنها مؤلفات ثمينة تمتزج فيها الحكمة بالمعرفة بالفلسفة بالثقافة بالأدب بالتصوّف.

يأتي كتابي الجديد، بعد مجالسة ممتعة قضيتها مع كتاب (الإمتاع والمؤانسة)، وهو بالمناسبة أوّل مؤلفات التوحيدي وواحد من أهمها. نشأت صداقة أنيسة بيني وبين نصوص التوحيدي، منحتني امتاعاً فكرياً وفلسفياً وثقافياً، وثراءً لغوياً وأدبياً، وحرّضتني على الذهاب في تجربة كتابة جديدة، امتزجتُ فيها بمتعة مع نصّ التوحيدي، وكأن وعيي قصد بهذا، ربما فيما يشبه إعادة الاعتبار، أن يصل عندي آخر التوحيدي (الإشارات الإلهية)، بأوّله (الإمتاع والمؤانسة).

عقيل الموسوي: أحب أن أتوقف عند بورخيس الذي كان النهر من الاستعارات التي ارتبطت بأدبه، فالزمن عنده ينساب مثل النهر، فلا أحد يستحم في النهر مرتين. هل نستطيع القول إنّ ذلك ينطبق على الكاتبة باسمة القصاب، أولاً لأن ماهيتها منفلتة مثل النهر، وثانيًا لأنّ النهر يجري باستمرار، وقطرات الماء فيه مختلفة في كلّ لحظة.

باسمة القصاب: أحببتُ استخدام كلمة (منفلتة) هنا. تحمل هذه الكلمة معنى التخلّص والانسياب والخروج عن السيطرة، والنهر هو أجمل مظهر للانفلات بهذا المعنى، ينشأ النهر عبر جريان الماء على الأرض، لا أحد يرسم للنهر سريانه، لا أحد يسيطر على قوّة اندفاع الماء، يشق الماء طريقه بنفسه، وأنا الآن يحلو لي أن أنساب مثل نهر (بورخيس). كنت بحيرة راكدة وأنا الآن نهر يجري، نهر يتجدد ماءه باستمرار دون توقف، نهر قابل لكل صورة تنقّي ماء روحه، وكل فكرة ترسم دوائر أسئلتها على سطحه، نهر يستمتع كلّ يوم بإضافة جديدة تسري فيه سريان الماء في الماء. لقد علّمتني تجربتي أن الإنسان نهر، وكلّ جماعة بحيرة، وأنا لن أشرب من بُحيرة الجماعات مرّتين.

 

إرخاء العصابة 

عقيل الموسوي: في فصلك الرّابع، فصل أصداء الهروب… تلقيات التّجربة، كتب أحد الأكاديميين أنّ جماعة الأمر تقود إلى شقاق المجتمع، وأصر على ضرورة الإصلاح الديني. وأتساءل هنا ما هي المؤسسة التي يمكن أن يكون لها اليد الطولى في أمر الدين، فتُصلح هذه الجماعة أو تلك! أليس حريّ بنا أنْ نقبل بمنطق التسامح الديني، لأنّ الاحتراب بين الجماعات، وفعل التسقيط العنيف الذي تقوم به جماعة لها غالبية على جماعة صغيرة ذات أقلية، يأتي دومًا تحت عنوان الإصلاح؟

باسمة القصاب: عبّرت في كتابي بأكثر من طريقة، أني لست مع المحاربة والتسقيط والإيذاء والتنمّر من أي جهة كانت، أنا مع مراجعة الذات ونقدها، مع نقد التشكيلات الجماعية المغلقة، مع خرق السياجات الدوغمائية المغلقة داخل المجتمع، مع قراءة التجارب الإنسانية وفتحها على الأسئلة، مع إثارة الجدل الفكري في الفضاء العام، هذه حركة تنعش المجتمع وتعكس حيويته. لكني لستُ مع الاحتراب بأي شكل، الاحتراب موت للحوار، وإنعاش للعصبيات.

عندما تحضر العصبية يموت أجمل شيء فينا، أعني رحابة الانصات إلى الأصوات الأخرى. سوف لن نسمح لضوء الآخرين أن يعبر نحونا. الجماعة فكرة كما قلت سابقاً، والفكرة عصابة تربط رأسك، كلما شددت عليها أعمتك، صارت عصبية، وكلما أرخيتها سمحت للنور أن يتخلل نحو عينيك. نحن لا نُدرك العنف الذي تمارسه العصابة على أعيننا قبل أن نخفف إحكامها علينا. لذا علينا أن نساعد الآخرين أن يسمحوا للنور أن يتسلل إلى أعينهم، لا أن نجعلهم يشدّون عصابتهم عليها أكثر.

الحكاية القادمة 

عقيل الموسوي: عشنا معك 16 عاما داخل جماعة الأمر، ولقد كتبت تلك التجربة الروحية وأخرجت ما فيك. والآن ها قد مرّت 16 عاما أخرى منذ أن ْتركت الجماعة. والقارئ الذي انبهر بتحليل كيف تحررتْ ذاتك المغلقة، يتوق؛ ليعرف الآن كيف عاشت ذاتك المحررة في حريتها، وبحسب اعترافك الكبير، الذي توقفت أمامه مليًا، “بقيت ذاتًا جماعية لا مكان للفرادة فيها، …، ولم تقبض ذاتي الفردية على نفسها إلاّ متأخرًا”. ألا تستحق هذه الفترة سيرة أخرى؟ ولتكن كما الأولـى، حكاية خاصّة وليست عامّة، ويغلب فيها التحليل على السّرد. يغريني لهذا السؤال الكم المعرفي الهائل الذي استعنت به في تحليل سيرتك.

باسمة القصّاب: كانت تلك تجربة مكتملة، حسمت ذاتي تحولاتها فيها وصارت مهيئة أن تروي وتُروى. أما الآن فإني وإن قبضت على ذاتي ككيان مستقلّ، لكني ما زلت اتشكّل كلّ يوم، لا يزال نهر الزمن يعلمني، ما زالت أفكاري تتعمّق أو تتحوّل أو تتبدّل. الأفكار لم توجد للثبات بل للاختبار، وما لا يصمد يسقط. على سبيل المثال أنا بعد 2011، لستُ أنا التي قبله. عبّرتُ غير ذات مرّة عن صدمتي الثقافية بالواقع الذي خلع قناع الثقافة والتنوير والتسامح والتعدد والتّعايش والحرية، وكشف عن وجه قبيح لم أتخيله. الكثير من الأفكار سقطت عندي والكثير تحوّل، كذلك علاقتي بالأشياء. الواقع نهر من طين.

لا تكفّ ذاتي الآن عن قول نفسها بالكتابة، والتعبير عن تجاربها وتحوّلاتها بأشكال مختلفة، وربما تكتمل لديها حكاية فكرية أخرى لترويها. هي الآن ماضية في تجوالها الجميل، ذلك الذي يعبّر عنه التوحيدي بقوله: “إنما أجول في هذه الأكناف لكلفي بالحكمة كيف دارت العبارة بها، وأمكنت الإشارة إليها”. هذا التجوال الذي يجعلك ماءً متدفّق السريان، ويرسل لك الحكمة في صوت نهر.

قيم المنشور!

نتیجة 4.00
باسمة القصاب

باسمة القصاب

نصف جناح ونصف جسد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  • ×
    تسجيل الدخول / العضوية