عاشوراء المنامة عبر ألوان نساء ثلاثة في السبعينات والثمانينات (2-3)
لون أمي
أمي صفيّة ضيف الحلواجي جيلٌ آخر، جيل دخله التعليم فصار علامته، نساء قارئات مثقفات مستقلات، عملت والدتي معلّمة ثمّ مديرة مساعدة، لها علاقاتها الاجتماعية الواسعة وصديقاتها من الطائفتين، تنظم رحلات سياحية في إجازة الربيع مع (قروبات) المعلمات كل عام، يعجّ بيتنا بالكتب والمجلات الثقافية المتنوعة، صفوف مكدّسة من مجلة العربي تصلنا بشكل شهري، وعند كل معرض كتاب، تُضاف إلى مكتبة بيتنا مجموعة من الكتب، معظمها في الثقافة العامة.
لم يكن الحجاب موضوعاً عند هذا الجيل، عباءة رأس تكفي، والتزام رصين بالعبادات والشعائر. تميل أمي إلى مجالس الخطابة الرجالية دون مآتم النساء، كذلك رفيقاتها، ينشدن بعداً توعوياً وثقافياً إلى جانب الحسيني، لهذا لم تكن تحضر مآتم النساء التي كانت تقتصر على القراءة الحسينية آنذاك، ولا ترتدي السواد شهرين كاملين كجدّتي، لكن مهابة الواقعة تجلّل بيتنا طوال هذين الشهرين، صوت الواقعة لا يغيب، وكل أشكال المتعة متحفّظ عليها، وأي ملمحٍ للفرح مؤجّل.
يقرأ الشيخ باقر المقدسي في مأتم السماكين عصراً، تنتخب إدارات بعض المآتم خطباء من العراق لإثراء المشاركة في عاشوراء البحرين وتنويع الأصوات، لا (ميديا) حينها تصل صوت شرق العالم بغربه، والصوت الذي لا تذهب إليه لا يصل إليك بسهولة.
يستقطب مجلس الشيخ باقر جماهير غفيرة من المستمعين الذين يتوافدون من كل مكان، ولأن بيتنا الأقرب للمأتم، يمتلئ بصديقات والدتي وقريباتها عصر كل يوم في عاشوراء، يتوافدن من داخل المنامة وخارجها للاستماع، كذلك بعض زميلاتها في العمل من المذهبين الشيعي والسنّي أيضاً.
كان الشتاء قارساً. يتم تسقيف باحة المأتم الخارجية لحماية المستمعين من البرد والمطر. تنصّب أعمدة خشبية رفيعة تشدُّ فوقها طرابيل سميكة، يصير المكان ظلاًّ دفيئاً. فيما تفرش أرضية الباحة كاملة بالسجاد قبل بدء القراءة وتزال بعد الفراغ منها، يفيض المأتم بالمستمعين، وتمتلئ الباحة بصفوف الجالسين على الأرض، تتضاعف الأعداد مع (اشتداد التحاريم)، تتحوّل عتبات البيوت المحيطة إلى كراسٍ للمستمعين. يخصص الممر الجانبي الذي يفصل بيتنا عن المأتم للنساء، يفرش بالسجاد حتى نهايته، وتُسدل عند مقدّمته ستارة سوداء تفصل محلّ النساء، تزاح بعد الفراغ من القراءة، يصير الممر بحراً أسود من عباءات النسوة لا شبر فارغ فيه.
يخرج أبي للاستماع عصراً، يختصر مكاناً عند عتبة باب بيتنا، ويسند ظهره إلى الباب، فيما تهيِّئ أمي شرفات الغرف المطلّة على باحة المأتم مباشرة. كان لكل غرفة علوية في بيتنا شرفتها الممتدة على طول مساحتها [أزيلت الآن]. يحيط الشرفة سورٌ نصفه من الطوب، ونصفه الأعلى حديدي، تستند النسوة على جدار الشرفة ووجوههن جهة المأتم، فلا تنبس شفاههن. طفلة أنا أجلس في زاوية الشرفة، لا تغادر عيني النسوة إلا نحو المشهد البشري المكتظ في الأسفل، الشارع الذي ارتدى بكامله سواد المستمعين من جدار بيتنا وحتى مسجد مؤمن.
لا تشبه وجوه صديقات أمي المكشوفة، وجه جدتي المنسدل بالدمع، هنّ أكثر تيقّظاً لما يبثّه الخطيب من موضوعات لا أفهمها. تلفتني لهجة الخطيب المختلفة: “لماذا لا يتحدّث مثلنا؟” أسأل أمي لاحقاً، تجيبني: هذا خطيب عراقي. حين يصل الخطيب إلى الشقّ الحسيني، تدلي النسوة عباياتهن فوق جباههن السافرة، يغطين بعض وجوههن لا كلّها، يبكين بصوت خفيت، أكاد لا أميز حركة بكائهن لولا ما ألمحه من اهتزاز طفيف لرؤوسهن، وحركة أيديهن التي تسحب المناديل الورقية كلما هاج الدمع، كأنهن يخجلن من بكاء يجهر بصوته، على عكس جدّتي التي يهدهد النحيب صوتها. يتأكدنّ من مسح وجوههن من الدمع قبل أن يكشفنها بعد انتهاء القراءة، ثم يعدن أدراجهن إلى صالة البيت، تنتظرهنّ سفرة ممدودة يتوسطها عيش الحسين الساخن، أحضره أبي لأمي من المأتم مباشرة.
يُغرف عيش الحسين من قدور الطبخ الكبيرة في صوانٍ دائرية، تكفي قرابة 6 أشخاص، يتحلق المستمعة حول الأسمطة الممدودة داخل المأتم وخارجه، يتشاركون تناول البركة باليد، [لم تكن بارسلات الطعام موجودة، وملعقة كل واحد يده]. يشتهر مأتم السمّاكين بوجبة السمك التي يقدمها دوناً عن غيره من المآتم خلال أيام عاشوراء، فهذا المأتم تأسس منذ نهاية الخمسينات على يد جماعة من السماميج أو السمّاكين بزعامة السيد جعفر ناصر شبر السماك (1958)، أحد كبار تجار الأسماك، ومنهم أخذ المأتم اسمه. يتمّ الطبخ في براحة خلف المأتم على يد مجموعة من خدّام الحسين والطهاة.
يتفرّق الجميع بعد أن ينتهوا من تناول بركة المأتم وشرب الشاي، ليقوم خدام الحسين على الفور بتنظيف المأتم من الداخل، والشارع كاملاً، في حركة مكوكية تتعجب لفرط سرعتها ونظامها وانجازها، وتجهيز المكان للقراءة التالية التي ستكون عند الساعة السابعة مساء. ينصرف البعض إلى بيوتهم والبعض الآخر إلى مسجد مؤمن استعداداً لصلاة المغرب. وما إن يصدح الأذان وينشغل الكبار بالصلاة، حتى تتحوّل براحة المأتم المسقوفة إلى مسرح لعبنا نحن الأطفال، نتراكض صبية وفتيات في المساحة المضاءة والمفتوحة بانتشاء استشعره حتى الآن، كنا نرى في تلك المساحة ميداناً ضخماً ومسرحاً ممتداً، ونجد في ذلك الوقت فرصتنا المثالية للعب دون حسيب أو رقيب، خصوصاً والدتي التي تتشدد طيلة العام بمنعنا من اللعب في الخارج، وتحظر علينا الشارع بعد أذان المغرب، لكن انشغالها مع قريباتها وصديقاتها المستمعات، اللاتي يبقى بعضهن لبعد صلاة المغرب، يجعلها تغضّ طرفها عنا في هذه الأيام.
نقول (اشتدت العشرة) منذ ليلة السابع من محرم، فتخلو المدارس من الطلبة صباحاً، لا تسمح والدتي بالغياب قبل اليوم السابع، ولا الخروج ليلاً أو السهر قبلها، ولم تكن مواكب العزاء بالكثافة التي نراها اليوم منذ الليلة الأولى من عاشوراء، بل كانت تزداد كلما اشتدت العشرة. في ليلة السابع، تأخذنا أمي لمشاهدة مواكب العزاء في بيت الخال (عبدالنبي ضيف)، يتمتع بموقع استراتيجي في قلب شارع الإمام الحسين، قريباً من مأتم القصاب ومأتم مدن، وهناك تنتظرنا شرفة أخرى كبيرة تمتد على جانبي البيت، توفّر لنا مشاهدة بانورامية لمواكب العزاء منذ مرورها على مأتم مدن، حتى عبورها نحونا باتجاه مأتم القصاب.
نقضي في تلك الليالي الوقت الأكثر حماساً على الإطلاق، والأكثر دهشة. تجتمع نساء عائلة أمي كلّ بأطفالها، نتسمّر جلوساً في الشرفة التي يتم فرشها بالسجاد لمشاهدة مواكب العزاء المتدفقة واحداً وراء الآخر، أحرص أن أقبض على زاوية الشرفة قبل أن يحتلّها أحد قبلي، تمنحني هذه الزاوية فرصة مشاهدة المواكب وهي تمر عبر الشارعين فلا يفوتني منها شيء، لا نغادر قبل مرور الموكب الأخير قريباً من الفجر، مأتم العجم عادة.
ما زلت أذكر المرّة الأولى التي التفتت فيها حواسي إلى قصيدة “يما ذكريني من تمرّ زفة شباب”، لا أذكر اسم الموكب، لكن أذكر أنها كانت مع عزف موسيقيّ، يتقدّم الموكب شبيه القاسم محاطاً بزفّة من الشموع والورود والحلويات، هزّ الموكب وجداني وتسمّرت حواسي، بكيتُ كثيراً ولم تغادرني الصورة لأيام، ومنذ ذلك اليوم انقدحت القصيدة بلحنها الحزين في وجداني.
في صباح اليوم التاسع من محرم يمرّ موكب عزاء مأتم مدن بمحاذاة بيتنا في المخارقة (ما زال حتى الآن)، لا أفوّت مشاهدة هذا الموكب المهيب، يتقدّمه شبيه (علي الأكبر) برأسه المشجوج بالسيف، يترنّح يميناً ويساراً فوق جواده الأبيض، القصيدة المصاحبة لهذا الموكب ذاتها في كلّ عام (يهل الخيم جاكم علي قوموا له.. شوفوا على صدري جنازته محمولة)، انتظر وإخوتي هذا الموكب بدهشة الفجيعة، ما إن يتناهى إلى أسماعنا بوادر مكبر الصوت وهو يقترب نحو مسجد مؤمن، حتى نقفز خارجاً، نتسمّر متصلّبين في انتظار وصوله نحونا، لا تغادر عيني هذا الشبيه الذي لم أكن أستوعب كيف فلق السيف رأسه هكذا، ألاحق الشبيه بنظراتي المندهشة وقلبي المنكسر وعيني الدامعة، يقطع الموكب باتجاه مأتم (أبو عقلين)، ثم يكمل طريقه عائداً إلى مأتم مدن عبر شارع الإمام الحسين. ما زلت لا أفوّت مشاهدة هذا الموكب، وما زلت أتعنّى أن أكون في المنامة صباح التاسع من محرّم من أجل مشاهدته.
ملحوظة: تغيّر لون أمي الآن، صار سوادها شهرين كاملين، والحسين دمعة لا تجفّ في عينيها، كلما سمعت اسم الحسين لطمت صدرها: “يا حسين يا بعد العين”، وصارت مآتم النساء في المخارقة وجهتها، بينها مأتم بنت الشيخ، ومأتم المعلمة طيوب، وغيرها.