عاشوراء المنامة عبر ألوان نساء ثلاثة في السبعينات والثمانينات (1-3)
لون جدتي
كلما سمَعَت جدتي صوت القارئ الحسيني يتنحنح بادئا، تُشرِّع نافذة غرفتها الشمالية مستجيبة. تتفاخر جدّتي السيدة خاتون السيد ماجد العلوي رحمها الله، أنها من نسل رسول الله، وأن جميع غرفها التي احتضنتها في الدنيا؛ بيت أبيها، ثمّ زوجها، ثمّ ابنتها (أمي)، جميعها غرف تيمّم نافذتها جهة الشمال. تردّد: “يا رب كما جعلت غرفتي في الدنيا شمالية، اجعلها في الآخرة كذلك”.
الشمال في قاموس جدتي، نافذة ضوء تعينها على حدق حروف قرآنها الذي تتلوه كل صباح، ونسيم هواء عليل يهفهف ستارة غرفة روحها كلّ وقت، والشمال في الآخرة يعني لديها نور يجلِّل ورحمة تكلِّل، لكن في عاشوراء، تعني نافذة تعانق صوت الخطيب وهو يرفع مجلسه الحسيني، يحضر إليها عبر سمّاعات مثبّتة فوق جدارن بيتنا، الواجهة اليمنى لمأتم السمّاكين. كانت المآتم تمدّ سمّاعاتها على جدران البيوت المجاورة ليتّسع فضاء الصوت، ويمتدّ حيّز الاستماع، فكأن كل بيوت الحيّ مأتما. تتقلّب هذه البيوت على وقع الفجيعة صبحاً ومساء، يقتحمها غبار المعركة، يرجّها صهيل الخيول، يشجّها اصطكاك السيوف، غدر السهام الحاقدة، دخان الخيم المحروقة، صرخات الأطفال المروّعة، نحيب النساء المفجوعة. كان ذلك بيتنا.
ترخي جدتي ظهرها على مسند ذي غطاء أبيض منقوشة بخيوط زرقاء، نافذتها مهيئة للحزن وكلّها جهة سمع، كلما حضر اسم جدّها “الحسين”، سقط رأسها في هدهدة الحزن، تُسدل مشمرها الأسود على ناصيتها، يهتز عودها الضئيل بالنحيب، تضرب راحة يدها على فخذها: “يا حسين يا بعد العين”. يكفي أن يحضر اسم “الحسين” ليحضر البكاء كلّه، لا أذكر أني رأيتها تبكي على شيء كالحسين. لا يعنيها من قراءة الخطيب غير الجزء الحسيني، يكمل القارئ نوحه ولا تتوقّف، نحوطها صغاراً (إخوتي وأنا) نطالع حزنها بانكسار، لا نفهم الحزن، ولا سرّ كل هذا البكاء الطريّ، ولا ندري كيف نرفع ما ظهر على جدّتي من الهمّ، أسالها: أماه العودة القارئ خلَّص، ليش بعدك تصيحين؟ تجيب: على مصيبة الحسين يا بتّي، مصيبة الحسين ما تخلّص.
تلمحنا نلعب هنا أو نتضاحك هناك، تزجرنا: “مو زين تضحكون.. هذي أيام حزن وبكاء وبس”. لا يبلل الماء شفتيها قبل أن تلهج بذكر الحسين: “السلام عليك يا حبيبي يا عطشان كربلاء”، تبكي. سوادها شهران ديدنهما الحزن. تواظب على الذهاب إلى (العزية) صباحاً ومساء طوال شهري محرم وصفر، المآتم النسائية القريبة من بيتنا؛ مأتم بنت الشيخ، مأتم المعلمة طيوب، ومأتم المعلمة زنوب، وأخرى لا أذكرها. كلما فرغ مأتم من سكب حزنه، فتح آخر بابه لمجلس نعي يليه، تذهب إليها واحداً وراء الآخر، وإن غابت عن أحدها يوماً، افتُقدت وسئل عنها. تودّ جدّتي لو أن محرّم الدهر كلّه، كي لا يتوقّف منها البكاء على جدّها الحسين.
في الصباح، ينفضّ آخر مجلس عزاء (عزية) قريباً من أذان الظهر، تعود جدّتي وفي يدها طبق من عيش الحسين الساخن: “هذا غدا المأتم بركة، أكلوه ساخن قبل ما يبرد”. تخفي تحت عباءتها كيسا صغيرا، تضع فيه “خيرات الحسين” التي يتم توزيعها بعد فراغ كل مأتم، نتلقف أنا وإخوتي الكيس قبل أن يدخل كلّها باب البيت، نتسابق للقبض على الحلوى وأكياس (المينو) والعصير، نتذمر إذا لم نجد في الكيس ما تهواه طفولتنا.
النوم في غرفة جدتي حكاية أخرى، أتعجّب الآن وأنا أرى مساحتها الضيقة، كيف كانت تؤويها وأربعة أطفال بكل ذلك الاتّساع؟ تستلقي فوق (كرفايتها)؛ سريرها الحديدي أخضر اللون، وتمتد فرشات نومنا على الأرض، وما أن تُطفأ أنوار الغرفة، تبدأ أنوار الحكايا، يتّسع المكان، يصير طريقاً أو بستاناً أو روضة أو زقاقاً، تعيد سرد الخرّافة (حكاية شعبية) كلما طلبنا، لا نحن نشبع ولا هي تملّ، وفي محرّم يصير المكان ساحة معركة، تقلّبنا في صور الواقعة، يخترقنا صوتها في هدوء الليل وظلامه، يهيئ لنا الظلام رسم صور المعركة في فراغ الغرفة، كلما قلبت الصورة بصوتها، قلبناها في خيالاتنا الصغيرة وبللت دموعنا وسائدنا.
لا يجيد الأطفال البقاء في الحزن، يغادرونه سريعاً، ثمة مسافة تربك أذهانهم الصغيرة، المسافة عند الطفل هي اللحظة. اللحظة الجديدة تعني صورة جديدة وحدثاً جديداً. سريعاً ما نغادر الحزن نحو براءتنا الشقيّة، مرحنا وضحكنا ولعبنا، ولا تلبث زجرة أخرى أن تأتي: “قلت لكم هذه أيام حزن لا ضحك فيها”. نشهق ندماً، نغطي أفواهنا بأطراف أصابعنا، يلوم أحدنا الآخر. ثم لا تلبث أن تأتي لحظة جديدة.