» مقالات » عاشوراء المنامة عبر ألوان نساء ثلاثة في السبعينات والثمانينات (3-3)
مقالات

عاشوراء المنامة عبر ألوان نساء ثلاثة في السبعينات والثمانينات (3-3)

15 يوليو، 2024 70225

 

لوني..

حمل الثمانينات موعداً مع جيل جديد، لونه الدين وعقيدته الحماس. انقدح وعي هذا الجيل الفتي على انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وما رافقها من مدّ ثوري وديني، وما أشتعل من انتفاضات شعبية، الحدث الذي منح الشعوب المستضعفة الثقة بإمكانية الانتصار على أقوى الكيانات الاستبدادية. برز خطاب جديد وعناوين جديدة: الثورة، المستضعفون، المستكبرون، الشهادة، الصحوة الإسلامية، الحجاب، ولاية الفقيه، الدور الرسالي، كلها حضرت بقوّة في تشكيل هذا الجيل، وحملت عنوان الإحياء الجديد للدين. 

كان هذا جيلي. ولأن الحماس هو أول وعيّ الإنسان، فقد انقدحت تلك الشرارة فيّ بقوّة، وصار ذلك لوني.

 

كان مسجد مؤمن بؤرة الانتفاضة التي اشتعلت في المنامة خلال الثمانينات، وكان مدّ المواجهات الملتهبة بين الشباب وقوات الأمن يقع أمام مرمى عيني المتربّصة، نلاحقها أنا وإخوتي عبر نوافذ بيتنا المطلة على المسجد والشارع المحاذي، تنهانا أمي عن التلصص خوفا من أن تصوّب نحونا طلقة أو مسيلاً للدموع، نتخفّى وراء الستائر، ونشق لأنفسنا زاوية رؤية صغيرة كي لا يفوتنا شيء من مشاهد السينما الحيّة أمامنا. 

انعكس ذلك اللون على قصائد مواكب العزاء، أشعل انتصار الثورة في إيران البعد الثوري لقضية الإمام الحسين، لم يعد هذا الجيل تستقطبهُ مراثي وخطابات تُغذي الجانب البكائي فقط، بل يريد شعيرة دينية مصبوغة بنهم ثوري وحماسي. اختلف معنى إحياء عاشوراء، صار إحياءً لفلسفة الثورة الحسينية، وأهدافها ومبادئها ومعطياتها ودروسها وقيمها، لا طقس البكاء فقط. عاشوراء عند هذا الجيل مدرسة ثورية قائمة، تستنهض الخروج على الظلم وترفض الخنوع والمهانة والإذلال.  

برزت أسماء شابّة بين رواديد المواكب العزائية التي حملت هذا اللون، أبرزها الإخوة سهوان من السنابس: حسين وجعفر ومهدي، استقطب الموكب (السهواني) حشوداً كبيرة من المعزين الشباب الذين يتعنون له من كل مكان. كنت أصرّ على الذهاب إلى بيت (خالتي علوية) في جدحفص في اليوم الحادي عشر من محرم، كي أخرج مع بنات خالتي (نجاة وجهاد) لمشاهدة عزاء الديه المركزي، خصوصاً حسين سهوان الذي حفظت الكثير من قصائده وصرت أرددها ليل نهار. يرنّ الآن في ذاكرة أذني، بينما أكتب هذا المقال صوت سهوان وهو يصدح بين المعزين: (أمة الله أجيبي.. صرخة المستضعفين.. وارهبي المستكبرين)، وقصيدة: (قال للمستضعفين.. لا تخافوا الظالمين). كان من أكبر المواكب حضوراً وحماساً خلال الثمانينات، وترى أجهزة التسجيل (الكاسيت حينها) مرفوعة بأقصى الأيدي طوال مسار الموكب، وما إن ينفضّ الموكب حتى يتم نسخ أشرطة العزاء في لمح البصر، نتلقّفها بلهفة، ولا نكل من سماعها طوال اليوم.  

في المنامة كان موكب عزاء مأتم الشهيد هو الأكثر جذباً لنا نحن الجيل الجديد المأخوذ بالحماس، أسسه مجموعة من الشباب بعد التضييق الشديد على المواكب الرسمية بعدم تناول أية قصائد سياسية. حمل الموكب اسم (الشهيد) نسبة إلى ابن المخارقة جميل العلي الذي استشهد في 1980. يخرج الموكب بسرية مشددة من أَزِقَّة المخارقة الضيقة كلّ ليلة في عاشوراء، لا أحد يعرف كيف وأين يجتمع هؤلاء ومن أين ينطلقون، وأين تُخبأ تلك الأعلام التي تظهر فجأة، و(البيرق) الكبير الذي يحمل اسم الموكب. يتم اختيار رواديد غير معروفين كي لا يميز صوت أحدهم ويتم اعتقاله، يحاط بمجموعة موثوقة من الشباب ويخفى بعدد كبير من الأعلام. ينطلق الموكب بشيلاته وقصائده الثورية من خلف مسجد مؤمن مارّاً بمأتم السماكين باتجاه مأتم (أبوعقلين) نحو شارع الإمام الحسين، يكبر الموكب شيئاً فشيئاً بانضمام الشباب إليه من كل صوب.

كان الموكب محط انتظاري وترقبي، ألاحق خطّ مساره فور خروجه، تملكني الفضول الشديد لمعرفة بؤرة تجمعهم، وأحسبني عرفت ذلك حينها، أو ربما خُيّل لي. من الشيلات الشهيرة التي تردد في الموكب “يا ميدان الشهادة.. كلنا عندنا إرادة”، كذلك القصيدة التي حفرت بقوّة في ذاكرتنا الثمانينية: “فاز الشهيد ونال العزّ والشرفا.. ذكرى له باقية طول المدى وكفى”. 

الصحوة الإسلامية التي تعني في مفهومها عودة الوعي للأمة، وإحساسها بذاتها واعتزازها بدينها وسعيها لبناء حضارة الإنسان، كان أول مظاهرها في واقعنا هو حجاب المرأة. صار الحجاب ظاهرة جيلنا من الفتيات، على خلاف جيل الأمهات اللاتي لم يعرفنه رغم التزامهنّ بالحشمة وعباءة الرأس، على الأقل هكذا كان في العاصمة المنامة. ارتدته أختي (جهاد) التي تكبرني بثلاثة أعوام باكراً، من أوائل الفتيات التي ارتدته في عائلتنا، لم تتقبل والدتي قرارها آنذاك. صار الحجاب لون الثورة والصحوة. ارتديتُه أنا في الصَّف الثّاني الثانوي، السّنة ذاتها التي فُجعت فيها بفقد أختي في حادث مروريّ مروّع.

واظبتُ على الصلاة في مسجد الخواجة الذي استقطب اللون الجديد، عجّ بالمصلين والخطابات الحماسية والهتافات، وفيه تعرّفت على فتيات ناشطات فتحنني على (المكتبة الإسلامية بالمنامة)، تقام فيها فعاليات وأنشطة دينية خاصة بالنساء بقيادة عناصر نسائية شابّة خلال المناسبات الدينية. تقع المكتبة في الدور الثاني في بناية العصفور المواجهة لمخبز المرزوق وسط سوق المنامة. وكان مأتم أم مقداد في المخارقة بؤرة أخرى للفعاليات الدينية عند هذا الجيل من النساء. تحدّد شكل حجابي إلى أسفل الذقن، وصار السواد لوني شهرين كاملين.

لكن الأكثر، أن اقترن الحجاب عند فئة كبيرة من فتيات اللون الجديد بارتداء البوشية (غطاء الوجه) والقفازات، وصار السواد غيمة. تعرضت لضغط كبير من قبل صديقات المسجد لارتدائها باعتبارها نموذج الستر (الزينبي). لا أنسى المرة اليتيمة التي ارتديتها، لم أقتنع يوماً بتغطية الوجه لكنها التجربة، كانت خلال ليالي عاشوراء أثناء ذهابي مع بعض الصديقات لمشاهدة العزاء، ارتديتها تحت إلحاح شدّة الاختلاط في تلك الليالي، المضحك أني ارتديتها عند بداية زقاق بيت (الزرقي) وخلعتها قبل نهايته؛ تعرقلت قدماي قبل أن أكمل خطواتي العشر الأولى وتدحرجت على وجهي، فيما تدحرجت صديقاتي عليّ من شدّة الضحك. رميتها في أقرب حاوية قمامة في طريقي. 

أحضر المجالس الحسينية بكثافة طوال أيام عاشوراء، المآتم الرجالية دون النسائية، يبدأ برنامجي عند الثامنة صباحاً ولا ينتهي  إلاّ في ساعات متأخرة من الليل. أعبر المآتم بين أزقّة المنامة واحداً وراء الآخر مع ندى (رحمها الله) وفضيلة بنتا عمتي: الثامنة صباحاً مأتم الاحسائيين، التاسعة مأتم مدن، العاشرة مأتم زبر، ثم مأتم مديفع بعد صلاة الظهر. غالباً نحضر المجالس الأربعة صباحاً، أو لا أقل من ثلاثة في حال غلبنا النوم وفاتنا مجلس الثامنة. ثم أذهب عصراً إلى مأتم بن سلوم مشياً، وفي المساء نحو مأتم الصفافير مع بنات خالاتي، ونختم اليوم بمشاهدة مواكب العزاء في شارع الإمام الحسين. 

 كان الطقس قد انسحب نحو لهيب الشمس، ولا مكان مخصص للنساء كما هو اليوم، ولم تعرف تقنيات البث المباشر، تُظلّل الأزقّة الضيقة الملتصقة بالمآتم وتُفرش بالحصير، فتكون مكاناً للنساء. 

في مأتم زبر يوم الثامن من محرم، يخرج علينا شبيه القاسم بفتوته البضّه ولباسه الأخضر، بعد أن طاف بين المستمعين داخل المأتم، فيما الملا يشجَعُ بواقعة مقتله وسط صرخات الرجال ولطمهم، يشتد لطم النساء فوق الرؤوس والصدور، يرتجّ المكان بمن فيه، وتنثر الحلويات والمشموم والورد فوق رؤوسنا المتهدلة بالبكاء، والذائبة من شدّة الحرّ، تختلط خيوط العرق المتصبّبة فوق جباهنا بميزاب دموعنا، نختنق، نتذكر عطش الحسين وحر الرمضاء التي قُتل فيها، فنستحي أن نشتكي. 

 

كان ذلك قبل أن أنتمي إلى جماعة دينية أخذتني إلى لون آخر،  وتلك حكاية أخرى..

قيم المنشور!

باسمة القصاب

باسمة القصاب

نصف جناح ونصف جسد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  • ×
    تسجيل الدخول / العضوية