في انحيازي لخولة مطر
نعم أنا منحازة لخولة، وسأخبركم لماذا.
في العام 2005، كانت صحيفة الوقت في مخاض الولادة، وفي مرحلة التأسيس. في مبنى الصحيفة رأيت خولة للمرة الأولى، لم أكن أعرفها قبل، أول امرأة بحرينية تتقلّد منصب رئيسة تحرير صحيفة يومية. منذ الوهلة الأولى لا يمكن إلا أن تلفتك خولة بأناقة حضورها، ولباقة حديثها، تواضعها غير المتكلف، احترامها الشفيف، وابتسامتها التي لا تفارق صفحةَ وجهها.
في ذلك الوقت كان الجميع -كل من محلّه- في ورشة عمل مفتوحة، وعصف ذهني محموم لتقديم الجديد، المختلف، ما يليق بصحيفة حملت على عاتق تأسيسها أن تكون غيراً، أن تكون مساحة مفتوحة للجميع، أن لا تكون منضوية تحت سلطة أو جهة، أن يكون انحيازها الوحيد هو الإنسان، وقضايا الوطن والمواطن.
بسرعة، نفذت خولة إلى قلوبنا جميعاً. ينذر أن تجدها جالسة في غرفةِ مكتبهِا. لن تجد سوى شالها الكشميري الأسود يجلس منسدلاً بعناية فوق ظهر كرسيها. أما هي فنحلة تجوب مبنى الصحيفة في متابعة حثيثة لكل قسم، لكل تفصيلة، لكل أحد. وسوف تُعطي كل أحد من العناية والتقدير، ما يشعره بخصوصية مبهجة.
الصحافة عند خولة ليست جلوساً خلف كرسي مريح، بل نزولا متعب إلى قلب الميدان، ليست خبراً يصعد إليك، بل حدثاً تنزل إليه. لهذا أنا منحازة إلى خولة. لأني مؤمنة أن الحقيقة رؤية لا رواية، لا يمكنك ككاتب أو صحافي أن تروي ما لم تشتبك به بحواسك ووجدانك وتجربتك، لا يمكنك أن تكون منحازاً إلا إلى الميدان الذي يضعك أمام الحقيقة بلا ترف ولا زيف ولا رتوش ولا توجيه من أحد، لهذا لم يُرض خولة خلال عملها الصحافي أقل من النزول إلى الحدث، حتى في الحروب ومواقع الصراع.
بل في الحرب أكثر من غيرها، لأن الحرب هي أكثر ما يجري فيه التزييف والتعتيم والتضليل وممارسة الكذب، لهذا حرصت خولة أن تذهب بنفسها إلى مناطق الحروب والصراعات المسلّحة، كي تنقل الخبر رؤي عين رغم الخطورة: اليمن، جيبوتي، لبنان، والبوسنة والهرسك ثم سوريا لاحقاً أثناء عملها في الأمم المتحدة.
في حرب تموز 2006 ، وأثناء العدوان الاسرائيلي على لبنان، حرصت خولة أن توثّق لنا من هناك (يوميات بيروت المحاصرة). كانت الصحافة حينها ورقيةً فقط، والسوشيال ميديا لم يصعد نجمها بعد، فكان الناس يتلقفون صحيفة الوقت كل يوم، يتصفحونها مع فنجان قهوتهم الصباحي، لقراءة مقال خولة الذي يقول لنا ما لا تنقله وسائل الإعلام الأخرى. عاشت خولة يوميات الحرب بين الناس لتنقلها إلينا عيناً بعين. (صدر لاحقاً في كتاب تحت العنوان نفسه).
غادرت خولة الوقت سريعاً، حلّقت فراشتها نحو الأمم المتحدة، لكن حضورها بقى فينا قوياً حتى آخر يوم في عمر الصحيفة التي غادرت هي الأخرى سريعاً في 2010.
نعم أنا منحازة إلى خولة، البحرينية الشجاعة في دوائر الصراع،كانت مديرة لمكتب المبعوث الخاص بسوريا، عندما تنقلت بين مناطق خطرة هناك مع فريق الأمم المتحدة لتقديم المساعدات الإنسانية. رفضت خولة وضع الخوذة على رأسها وارتداء الملابس الواقية قالت: لست أفضل من السوريين هنا. دخلت مناطق خاضعة لسيطرة القوات المسلحة رغم التحذيرات الأمنية، وهناك التقت الأهالي واستمعت إليهم ودخلت بيوتهم وعاشت أجوائهم. الجهد الذي استحقت عليه جائزة الأمين العام للأمم المتحدة للشجاعة في 2016.
نعم أنا منحازة إلى خولة، لأنها رغم تحديات الداخل والخارج وضغوطاتهما، لم تهادن على غير المبدأ، ولم تساوم على غير الموقف، ولم تسوّف في الكذب أو النفاق، لم تصالح التزييف في قضايا بلدها، أو قضايا الإنسان، ظل انحيازها للإنسان، للمبدأ، لحرية الرأي، للعدالة، للكرامة، وظل انحيازها مطلقاً للقضية الفلسطينية، وضد الكيان الغاصب.
نعم، أنا منحازة إلى وجه خولة، لأنه وجه الإنسان المقابل لوجه القاتل الذي نتحدث الليلة عنه، ذلك الذي استحوذ على وجه الإعلام الدولي وسرق وجه المنظمات الدولية، وصار يعيث من خلالها في مسميات الأشياء، يفقدها معناها ويلبسها غير حقيقتها، حتى وجدنا أنفسنا أمام حقوق إنسان منحازة، وحرية منحازة، وعدالة منحازة، وسلام قاتل.