إنكار أم حقيقة.. هل يوجد سجين سياسي في البحرين؟
سؤال يطرح نفسه بقوّة في البحرين هذه الأيام، إثر خطوة مجمع عليها وطنياً، بالإفراج عن قرابة نصف عدد السجناء المحكومين على خلفية قضايا سياسية منذ أحداث 2011، أعقبتها اعتصامات متواصلة قام بها جموع من الأهالي، ناشدوا بالإفراج عن بقية أبنائهم باعتبارهم سجناء رأي ومعتقلين سياسيين.
تلا ذلك إشادات بـالإفراجات من شخصيات حقوقية وبرلمانية، ومناشدات بالمزيد من خطوات الانفراج السياسي وتبييض السجون والإفراج عما تبقّى من (معتقلين سياسيين) و(سجناء رأي) يبلغ عددهم 556 سجيناً، وخلال جلسة النواب الثلاثاء 30 أبريل/نيسان 2024، طالب النائب ممدوح الصالح بالإفراج عن الشيخ علي سلمان الأمين العام لجمعية الوفاق (حُلّت بأمر قضائي 2016)، واصفاً سلمان بأنه رجل يعرفه القريب والبعيد وخطابه متزن وهادئ وخروجه من السجن يشكّل منعطفا جديدا في البحرين، وقال إن شعب البحرين مازال ينتظر خروج المزيد من المحكومين لتكتمل الفرحة، سيما أن بعضهم كان يوماً تحت قبة البرلمان مثل الشيخ علي سلمان، وأيدّه عددٌ من النواب في ذلك.
البوعينين: بمثابة رُدّة
لكن ردّاً جاء من وزير مجلسي الشورى والنواب غانم البوعينين في الأسبوع التالي، عبر بيان قاطع للحكومة، أنه لا وجود لسجناء سياسيين ومعتقلي رأي في البحرين، معتبراً استخدام عبارة «سجناء الرأي» محاولة لإسباغ الصفة السياسية على الوضع القانوني لبعض المحكوم عليهم، ومعتبراً موقف النواب الذين استخدموا هذه المصطلحات بمثابة (ردّةٍ) تتنافى مع المبادئ الوطنية. وفي الجلسة النيابية التالية أيّد رئيس مجلس النواب أحمد المسلّم ما جاء على لسان وزير المجلسين، وقال في كلمته الختامية بأنه على النواب احترام السّلطة القضائيّة وأحكامها الصّادرة، ولا يجوز التّدخّل في سير العدالة، انطلاقًا من مبدأ فصل السّلطات في البلاد.
تصدرت عبارة “لا يوجد سجناء سياسيين في البحرين” عناوين الصحف الرسمية في البحرين، واشتعلت وسائل التواصل المجتمعي بين مُؤيد ومُنكر، ليطرح السؤال نفسه بقوّة: هل يوجد سجين سياسي في البحرين؟
علي سلمان: أنا سجين رأي
ورغم حالة الإنكار الشديدة من قبل الحكومة بعدم وجود معتقلي رأي أو سجناء سياسيين، لكن هناك أسماء بارزة في المشهد البحريني عُرفت بخطابها المعتدل وتمسكها بالحراك السلمي مثل الشيخ علي سلمان، وابراهيم شريف أمين عام جمعية وعد (حلّت بأمر قضائي 2017)، والحقوقي نبيل رجب، ومع ذلك تمت محاكمتهم، وقضوا سنوات في السجن على خلفية رأي سياسي معارض، أو موقف غير مرغوب فيه، أو تغريدة مكتوبة. يقول الشيخ علي سلمان عن نفسه: “أنا سجين رأي لم يُمكّن من الدفاع عن نفسه، ولم تُمكّن هيئة الدفاع عني من تقديم دفاعها”.
شريف: نعم مدوّية
القيادي إبراهيم شريف عبر تغريدة له، علّق على ما جاء على لسان وزير المجلسين ورئيس النواب، وقال بأن موقف الحكومة يتناقض مع قبولها ما جاء في تقرير اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق، والتي أجابت على سؤال هل يوجد سجين سياسي في البحرين؟ بـ نعم” مدوّية. وأضاف: لقد رصدت لجنة تقصي الحقائق الانتهاكات الحقوقية الخطيرة التي قامت بها أجهزة حكومية في 2011، وانتقدت استخدام الحكومة مواد قانون العقوبات التي تجرم الرأي، خاصة المواد 165 و 168 و 169 التي حُوكم أو وُجهت تهم بموجبها إلى ألوف المواطنين. وقال إن اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق، التي عينها الملك، خلصت في تقريرها الصادر في نوفمبر 2011، إلى الرأي التالي:
- 1. حكومة البحرين استخدمت المواد 165، 168، 169، 179، 180 من قانون العقوبات لمعاقبة المعارضة وردع المعارضة السياسية. هذه الأحكام لا تتسق مع أحكام القانون الدولي لحقوق الإنسان ودستور البحرين.
- طُبقت المادة 165 من قانون العقوبات تطبيقا ينتهك حرية الرأي وحرية التعبير.
- تضع المادة 168 قيودا واسعة النطاق على ممارسة حرية الرأي وحرية التعبير.
- المواد 165، 168، 169 تقيّد أيضا الرأي والتعبير بتجريم التحريض على كراهية النظام أو الإضرار بالصالح العام دون أن تنص على أي عمل مادي ينتج عنه ضرر المجتمع أو للفرد. وقد جرى تطبيقها لقمع النقد المشروع للحكومة.
فإذا كان هذا ما جاء به تقرير بسيوني عبر لجنته المكلّفة من قبل الملك، وهو ذاته وأكثر، ما خلُصت إليه العديد من التقارير الحقوقية الصادرة عن منظمات حقوقية ودولية معروفة، بينها منظمة العفو الدولية التي تكرر حثها للبحرين على إطلاق سجناء الرأي، ومنظمة هيومن رايتس ووتش التي طالما دعت لإطلاق سراح “كل شخص سُجِن لممارسة حقه في حرية تكوين الجمعيات، والتجمع السلمي، والتعبير، بمن فيهم الحقوقيون، ونشطاء المعارضة، والصحفيين”، كذلك منظمة مراسلون بلا حدود التي عبرت في أحد تقاريرها في 2014 أن بعض سجون البحرين ما زالت تغص بسجناء الرأي، وغيرها، فلماذا الإصرار على إنكار وجود سجناء سياسيين في البحرين؟ بل إنكار كل ما وثقته هذه التقارير الحقوقية، واعتبارها تقارير مغرضة صادرة عن جهات متآمرة ومتدخلة في الشأن العام.
لم الإنكار؟
يقودنا ذلك إلى الوقوف عند فعل الإنكار. ما الإنكار؟ هو آلية من آليات الدفاع عن النفس، وفي علم نفس السلوك البشري، هو اختيار الشخص لإنكار الواقع كوسيلة لتجنب الحقيقة غير المريحة من الناحية النفسية، لأن الحقيقة يترتب عليها تبعات ومساءلات ومسؤوليات. عادة ما نمارس الإنكار تجاه الأمر الذي يزعجنا، أو الحقيقة التي تخدش صورتنا، أو تسبب لنا إحراجاً أمام الآخرين، أو تلك التي يلزم تغييرها أو إصلاحها أو معالجتها أو إعادة النظر فيها، ويكبر الإنكار مع مقاومتنا الرغبة في التغيير. لهذا في الحالة الفردية يقوم العقل بحجب المعلومات غير المريحة له، وتهميشها، أو التقليل من قيمتها وتكذيبها، هذا في حالة الفرد، وهي حالة خاصة وشخصية، لكن هل يمكن ذلك في الحالة السياسية والمجتمعية المعقّدة، ومع الوقائع والأحداث الموثقة، خاصة مع وجود وسائل الميديا التي توثق كل شيء، وتعيده إلى الواجهة بضغطة زر واحدة.
الإنكار والمؤامرة
الإنكار تهرّب واعٍ أو غير واعٍ من التبِعات، لهذا دائماً ما تقترن حالة الإنكار بنظريات المؤامرة والخيانة والعمالة للخارج، إلقاء اللوم والتبعات على طرف خارجي لإخلاء طرف الداخل، لكن الحقيقة الصادمة، أن الإنكار لا يحقق أي راحة في واقع الأمر، بل على العكس، يُوقِع في حالة دائمة من التعب والانزعاج المستمر، والمحاولات المُهلكة، بل الباهظة الكُلّفة، لتبييض الصفحات بدلاً من تبييض الأفعال، بينما يُفسِح الاعتراف المجال لرؤية تتسم بالوجاهة والرجاحة، وإتاحة الفرصة لحوارات صحية تتحقق من خلالها توافقات مجتمعية، الأمر الذي يساهم في طيّ عدد من الصفحات المزعجة بالفعل.
الإنكار بالتقريع
غالباً ما يقوم التشدّد في الإنكار مقام التأكيد. كلّما تصلبنا في إنكار وجود الشيء أكدنا وجوده أكثر. الرفض المتصلّب بعدم وجود سجين سياسي واحد في البحرين أمر ملفت، لكنه يُلفت على نحو عكسي. وحين يقف وزير المجلسين ومن بعده رئيس مجلس الشورى وقفة شبه (تقريعية) للنواب لأنهم أطلقوا على بعض المحكومين صفة سجناء رأي، وتمنوا المزيد من الإفراجات والانفراجات لتحقيق فرحة مجتمعية، ولتجاوز وضع مأزوم طاف 13 عاماً، يصير الأمر ملفتاً أكثر، فبعيداً عن التسميات، من تم الإفراج عنهم بالفعل هم من ذات المحكومين على خلفية أحداث 2011، والمناشدة بالمزيد من الإفراجات لا تتجاوز التأمّل بتوسيع نطاق هذه الخطوة المجمع عليها.
التقريع هنا همّش أصل المقترح بالسعي نحو توسيع الانفراجة، وهي انفراجة تشكّل توافقاً عاماً، ومطلباً عاماً، وفرحة عامة، وحاجة مجتمعية ملحّة. تجاهل التقريع ذلك ووقف متصلّباً أمام كلمة (معتقل سياسي)، وجعلها أصل الموضوع وكل الموضوع، وعليها تم رفض الموضوع وإسكاته جملة وتفصيلا، فبعد بيانات (التحذير) التي قوبلت بها اقتراحات النواب، واعتبارها (ردّة) متنافية مع المبادئ الوطنية، وتدخلاً فيما (لا يجوز التدخل فيه)، صمت النواب عن فتح الموضوع مجدداً. حدث ذلك تحت قبة البرلمان، الذي هو في الأصل، الجهة المفوّضة رسمياً بمعاينة الأزمات المجتمعية الكبرى، والمخوّلة بالتحرك الجاد لحلحلتها، وإصلاح الوضع القائم وتغييره، بدلاً من إنكاره.
فهل تجدون مقولة “لا يوجد سجين سياسي في البحرين” إنكارًا أم حقيقة؟