» مقالات » وهم التنوير
مقالات

وهم التنوير

21 يوليو، 2025 80386

 

 

في 2010، احتفلتُ مع ثلّة من أصدقاء الفلسفة بيومها العالمي. جعلناه أسبوعاً، واخترنا له عنواناً بدا آنذاك مشرقاً ومحمّلاً بوعد خلاصي: “التنوير”

في تلك الأمسيات، خضنا في نصوص كانط وفولتير، قرأنا الروايات التي تحتفي بالفكر، شاهدنا أفلام الفلاسفة، ورسمنا لوحات مستوحاة من مقولاتهم. في الفضاء الخارجي لمقهى قلعة البحرين، جلسنا مقابلين البحر، وقرأنا نصّ كانط الشهير “ما الأنوار؟” بانبهار، خرجنا باعتقاد راسخ أن الفلسفة تجعل الإنسان يصل إلى فهمه بنوره الخاص، وأن التنوير خلاص من الجهل، وشرطٌ للتحرّر.

كنت منغمسة في الحلم التنويري، أردّد مصطلحاته بحماسة، وربما بسذاجة نبيلة. حملنا شعارات مثل “اللا مفكّر فيه” و”المسكوت عنه”، وشرعنا نسائل الثوابت في منظومتنا الدينية والمجتمعية، وكأن سلطة الدين وحدها هي أصل كل تخلف وانغلاق. بدت لنا مفاهيم مثل التنوير والعقلانية والعلمنة والديمقراطية وحقوق الإنسان كأنها مفاتيح الخلاص، ومضاد حيوي يشفي من كل العلل، ويرفعنا إلى الضفة الأخرى من العالم، حيث النور والتحضّر والحرية والكرامة، في مقابل ظلمتنا “الشرقية” المتخلفة، كما لقّنونا طويلاً، وصدّقنا نحن. 

لكن منذ زلزال 2011، بدأ الوهم يتصدع. فالمختبر الحقيقي للأفكار ليس بهرج النصوص، بل محكّ الأخلاق في لحظات الانهيار. هناك، بدأ الواقع يخذل الفكرة، والمفاهيم تكشف عن خواء صادم. رأيتها تُستخدم مزدوجة، مخادعة، ملتوية، مزيّفة. لم يسلم حتى (السلام)، أنبل مفهوم ديني وإنساني، من الاستهلاك ضمن منظومة استسلام خانعة ومخزية. 

ثم جاء طوفان الأقصى 2023، فإذا بالتنوير نفسه يصطف مع القتل. صارت إسرائيل تُقدَّم كأنها النموذج “التنويري الديمقراطي المتحضر”، حامية السلام، وخصومها “بربريون”، “ظلاميون”، “إرهابيون”. لم تعد المفاهيم الغربية تكذب فحسب، بل تحوّلت إلى أدوات قتل مغطاة بالفكر. لم تعد تنتمي حتى للنظرية، بل اندمجت في آلة القمع. صارت صامتة، باردة، دقيقة، مبرمجة. لم تعد تعبأ بادعاء التسامح أو الحرية أو كرامة الإنسان. سقطت، وسقط معها الوجه الأخلاقي لما يُسمّى “العالم الحر”. صار ظلامًا خالصًا، بلا ومضة نور.

تولّدت لدي قناعة أن هذا العالم “الحر” جعلنا نعيش وهمًا كبيرًا؛ وهمًا أقنعنا بأننا متخلّفون، عاجزون، تابعون، ليفرض تفوّقه علينا لا كشعار، بل كقدر. ربّى فينا عقدة النقص، فقط لنواصل الركض خلف صورته، وهو يقتلنا، يسيطر علينا، يستولي على ثرواتنا، ووجودنا، وكرامتنا.

وإذا كانت مهمة التنوير هي إضاءة المناطق المسكوت عنها، فقد صارت إسرائيل هي المسكوت عنه، لا لأن جرائمها مجهولة، بل لأنك أمام منظومة تملك سلطة الكلام، وتحدّد ما يُقال وما يُمنع، وما يُسمّى وما يُحرّف. 

ليس المسكوت عنه ما لا يُعرف، بل ما يُمنع تسميته. ما يُجرّد من لغته. وما يُغلف بما يُطفئ معناه. وإسرائيل، بكل إرهابها، هي المسكوت عنه الأوضح في عالم يدّعي أنه يرى كل شيء، ويحاسب على كل شيء، إلا هي. كيف يصير الإحتلال والإبادة والتطهير جرائم مسكوتًا عنها؟  

لأكثر من سبعة عقود، تم تعويم صورة إسرائيل، تحويلها من كيان بغيض مكروه، إلى أن صارت توصَف بـ”الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، “الحليف”، “الضحية الأبدية”. تحوّلت من كيان استعماري إلى رمز للحداثة والحرية والخوف المقدّس. لا تُحاسب، بل تُبجّل.

لكن الأهم مما يُقال عنها، هو ما لا يُقال. الكلمات المحظورة، الأسئلة الممنوعة، الصور الممنوعة من النشر. كل هذا جزء من نظام سكوت شامل، تشارك فيه الحكومات، الميديا، المثقفون، حتى المؤسسات الدولية. لأن الكلام عن إسرائيل لم يعد رأيًا، بل مقامرة خطرة، وتهمة محسومة.

صارت إسرائيل المحرّم المركزي في اللغة السياسية. الدولة الوحيدة التي يُمنع نقدها في أوروبا تحت طائلة القانون. الوحيدة التي لا تُدان في مجلس الأمن إلا ويُسقط القرار فيتو أميركي. الوحيدة التي تُقدَّم في الجامعات بوصفها نموذجًا للديمقراطية.

حتى الإعلام العربي، بدأ يعقّم مفرداته: “الطرف الإسرائيلي”، “العملية العسكرية”، “التصعيد”، بدل “العدو”، “الاحتلال”، “الكيان”.

وحين حاول بعض الأكاديميين الغربيين كسر هذا الصمت، دُفعوا خارج مؤسساتهم. فرانشيسكا ألبانيز، المقرّرة الأممية، فُرضت عليها العقوبات لأنها وصفت ما يحدث في غزة بالإبادة. مورا فينكلشتاين، أستاذة أميركية، فُصلت من جامعتها بسبب منشور داعم لفلسطين.

كأن إسرائيل لا يُسمح لها فقط بالقتل، بل أن تصوغ القاموس الذي يُسمّى به القتل.

السكوت عن إسرائيل ليس غيابًا للوعي، بل قمعٌ ممنهج له. ومن لا يرى كيف يُصنع هذا السكوت، سيبقى يدور في فلك الكلمات النظيفة، بينما تُذبح الحقائق من تحتها.

كان التنوير وعدًا بكسر الصمت وكشف العتمة. لكنّه اليوم صار عقيدة جديدة للسكوت. ما وُلد ليكشف، صار يُستخدم ليخفي. ما بُني ليحرّر، صار يُستعمل ليبرّر. العقل نفسه لم يعد أداة مساءلة، بل أداة تبرير لجرائم القوة، طالما أنها مغلّفة بـ”الديمقراطية” و”حقوق الإنسان” و”الأمن الدولي”.

هكذا، تُرتكب المجازر في وضح التنوير الغربي، لا في عتمة الجهل الذي وُصمنا به. 

لقد انقلب التنوير على نفسه. لم يعد مشروع كشف، بل مشروع تغطية وحماية لوجه القاتل. لم يعد يضيء المسكوت عنه، بل يُسهم في جعله أكثر صمتًا وأناقة. صار نورًا زائفًا، يضرب العين حتى لا ترى. صار قاتل آخر.

هل هذا يعني أننا يجب أن نتخلّى تماماً عن فكرة التنوير؟ لا أعلم. ما أعلمه فقط، أن ما لا يُضيء القتل، لا يُسمّى نوراً.

 

* لوحة خاصة بالمناسبة للفنان عباس يوسف.

قيم المنشور!

نتیجة 5.00
باسمة القصاب

باسمة القصاب

نصف جناح ونصف جسد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  • ×
    تسجيل الدخول / العضوية