باسمة القصاب وتجربة «جماعة الأمر»: بين احتضان الفراشة وسحقها
عندما أثيرت قضية جماعة «الأمر»، أو ما يُعرف في الشارع البحريني بـ«السفارة»، في بداية التسعينيات من القرن الماضي، كنتُ في طور الطفولة (12 أو 13 سنة تقريباً)، لكنها حضرتْ في حياتي بقوّة؛ لأنّ أحد الأشخاص الخارجين عن جماعة الأمر في السجن من أقاربي، وحين انتهتْ محكوميتُه بالسجن وأُفرِجَ عنه كان كلُّ حديثهِ حول هذا الموضوع بتفاصيله: نواة التشكُّل، المرحلة الأولى من التأسيس، الانشقاقات، المواجهات الحادة بين المنشقين والمحافظين على الانتماء للفكرة… وما إلى ذلك. كُنّا نجلسُ مع الكبار في جلساتٍ عائلية كثيراً ما يحضرها أفرادٌ آخرون من المنشقين عن الجماعة وممن صاروا معروفين في الوسط العام لأنهم تولّوا مهمة سرد الرواية، كان هؤلاء يأتون لزيارة قريبنا، مع ما لهم من علاقة خاصة مع والدي، ويتحدثون ونحن نستمع بذهول.
كانت طريقة السرد حماسيةً جداً، وغارقةً في التفاصيل الدرامية والأسماء التي شكّلتْ في مخيلتِنا صورةً «أسطورية» عن أصحابها. تلا ذلك، بلا فاصلة، الهبَّةُ المجتمعيةُ ضد الجماعة، فترسّختْ الصورة الشيطانية (بكل تفاصيل التفاصيل) عن الجماعة وأفرادها في أذهاننا.
بعد سنواتٍ، حين تمت إعادةُ إثارةِ الموضوع في الألفية الجديدة، كان الاهتمام عندنا، كشباب نعرف تفاصيلَ لا يعرفها أغلبُ مجايلينا نتيجةَ العلاقة القريبة مع وجوهٍ مهمةٍ جداً من الخارجين عن الجماعة منذ منذ مرحلة السجن، أكثرَ جديةً، وأكثر وعياً نوعاً ما. لكنّ حوارات د. علي الديري مع نرجس طريف (إحدى المنشقات عن الجماعة في مرحلة ما بعد السجن)، ورابحة الزيرة (إحدى الكوادر الفاعلة في الجماعة إلى اليوم)، لم تخلق فرقاً كبيراً في التصوّر العام الذي كنتُ أحمله عن الجماعة وأعضائها؛ لأنّ هذه الحوارات ذكرتْ تفاصيلَ عزّزتْ صورة الانطباع العام في ذهني عن الموضوع ولم تأخذه لمسار فهم آخر، خصوصاً مع غياب خطاب مكاشفةِ الجمهور من أصحاب القضية المؤمنين بها وإلى اليوم.
بعد عقد آخر من الزمان على الإثارة الثانية للموضوع، ومع الهَبَّةِ الجديدة (مؤخراً)، كانت رؤيتي للتعاطي مع الاختلافات الفكرية (أيّاً كانتْ) قد تطوَّرتْ عمّا كنتُ أعيشُه أيام المراهقة (وقت الإثارة الأولى)، وبداية الشباب (وقت الإثارة الثانية). وكان رصدُ خطاب ومواقف المواجهة الجديدة يكشف الكثير من البدائية في التعامل مع مثل هذه الحالات، خصوصاً أنّ بعض القائمين على التصدي أراد للمسألة أن تكون شعبيةً، وهو ما خلط الكثير من المشاعر المتناقضة على الناس بين: التخويف والتهويل، يقابلهما الاستخفاف والتعاطف، غير أنّ وجوه التصدي لم يكونوا في وارد الاستماع لأي نقدٍ لطريقتهم وهو ما دفع الكثيرين ممن لهم أهليةُ إسداءِ النصيحة والإرشاد، الامتناع عن الدخول على الخط لئلا تُحسَبَ مواقفُهم بحسابات خاطئة يدفعون بسببها ثمناً اجتماعياً ليسوا مضطرين لتحمّلهِ في قضيةٍ كهذه القضية.
مع ذلك كانت أصواتُ النقد والتقويم الموضوعي لخطاب الطرفين (جماعة الأمر، والمتصدين لهم) مطروحةً في إطارات خاصة «تتفهّم» وجهة النظر المختلفة.
ثم جاء «حدثُ» نشر د. علي الديري لحواراته مع ياسر الجفيري، وهو ابنُ قيادِيٍّ بارز في الجماعة انشق عنها مؤخراً، وأقول «حدث» لأنّ هذه الحوارات غيّرتْ بعض التصورات العامة حول الأمر عند بعض المهتمين وأنا أحدهم. مع العلم أنّ درجة الاهتمام بالموضوع كانت قد أصبحت عندي، قبل ذلك، في مرتبةٍ متدنيةٍ بكثير مما كانت عليه في بداياتها ووسطها، لكنّ علاقتي الجديدة مع أحد الشباب المثقفين المهتمين بالموضوع بدرجة كبيرة جعل المسألة تعود بي خطوةً إلى الوراء فعدتُ (بمستوى معيّن) لدائرةِ اهتمامٍ كنتُ أهمُّ بالخروج منها.
اقتنيتُ كتاب باسمة القصاب «كالتي هربت بعينيها» بطبعته الجديدة، والذي تروي فيه قصة انتمائها لجماعة الأمر وخروجها منها بعد ستة عشر عاماً من الإيمان بالقضية والانتساب لها، وتُحلِّل فيه البنيةَ المعرفية التي تُشكّل هويةَ أمثال هذه الجماعات. أنهيتُه خلال يوم واحد. كان عرضاً وتحليلاً شيقاً ومختلفاً أثار فيَّ التأمل في الطريقة التي اختارتها الكاتبة لمعالجة الموضوع، وأسلوبَ تعاملها الرصين معه، رغم صعوبة الفصل، في مثل هذه التجارب المثيرة والفريدة، بين الذاتية والموضوعية.
القارئ الشعبي تهمه التفاصيل كثيراً، ويريد صورةً واضحةً مكشوفةً عن كل الخصوصيات (ليمارس فضولَ التلصص على المستور كعادته ربما)، وهو ما لن يجده في كتاب باسمة هذا. هنا تساءلتُ عن هذه (الاستراتيجية في العرض)، فوجدتُ أنها فعلُ ذكاءٍ نتيجةَ خبرةٍ وتجربة، فالموضوع يجب ألا يكون مادةً لتعزيز خيارات كل طرف ضد الآخر: «المعارضون الذين اختاروا التجريم غير المُغتَفر وقرروا تولّي دور المدعي العام والقاضي والمنفّذ للحكم»، و«أعضاء الجماعة نفسها الذين يناسبهم استعطافُ الناس والظهور بمظهر المظلومية وعدم فهم الآخرين لهم».
كان ابتسار التجربة إلى الحد غير المُخِل بصورتها العامة عملاً ذكياً مارستْهُ الكاتبةُ؛ لأنه يترك المساحة الأهم لتحليلها. التحليل الذي يقوم بدور صناعة وعي موضوعي مقابل الوعي المزيّف الذي يعتمد المعلوماتِ الجاهزة كمادةٍ خام غير منقّحة وغير متموضعة في سياقات يجب أن توضع فيها، ثمّ يكيِّفها مع أحكامه الجاهزة، ويمارس إسقاطاته التي تلائمه وتلائم خياره المسبق عن الموضوع.
شعرتُ بقدر كبير من العاطفة عند الكاتبة الشبيهة بعاطفة المقاتِل المنتصر في معركةٍ وجد نفسه مضطراً لخوضها. تركَتْ فيه، هذه المعركة المفروضة، جراحاتٍ مؤلمة رغم انتصاره، وربما كان أكثرها إيلاماً جرحه المعنوي المتسبب عن مواجهة مَن لم يكن راغباً في مواجهتهِ.
التجربة الفريدة لباسمة القصاب، يجب أن تُدرَس من الطرفين (جماعة الأمر والمعارضين لهم على السواء) بعناية فائقة. هؤلاء، كي ينفضوا أجنحتهم كما هي الفراشة حين تطير إلى مكان آخر، ويفكروا في ما لا يريدون التفكير فيه، وأولئك كي يتقنوا أسلوب احتضان فراشة يريدونها أن تنفض جناحها، وتنتقل إلى غصن آخر فلا يسحقوها وبإمكانهم أن يحتووها!
* كاتب بحريني
https://al-akhbar.com/Opinion/344003