» مقالات » بين الفكرة والمبدأ… من يختبر من؟
مقالات

بين الفكرة والمبدأ… من يختبر من؟

23 يوليو، 2025 60307

 

لا قداسة للفكرة، فليست كل فكرة عريقة عظيمة، ولا كل اسم فلسفي كبير مرادف للحكمة. الأفكار والفلسفات أنساق بشرية، قابلة للنقد، للتجاوز، بل للسقوط المدوي إذا خانت المبادئ التي بُنيت باسمها. 

الفكرة متحرّكة. الثابت هو المبدأ. 

لكن، لِنُحدِّد أكثر: ما الفرق بين الفكرة والمبدأ؟

الفكرة، هي تصوّر بشري لمفهوم ما، اجتهاد عقلي نشأ في لحظة تاريخية وسياق ثقافي محدد، فهي تتحرك وتتحوّل، وقد تُخترق أو تُستثمر أو تُفرغ من مضمونها، وتتحوّل إلى أداة هيمنة، أو إلى قناع للسيطرة. 

الليبرالية، الاشتراكية، الديمقراطية، التنوير، الحداثة… هذه أفكار وليست مبادئ.

 

أما المبدأ، فهو ليس مجرّد رأي أو تصور نظري، بل قيمة أخلاقية عليا يُنظر إليها بوصفها معيارًا ثابتًا يُحتكم إليه. 

كرامة الإنسان، العدالة، الحرية، المساواة، الصدق، الرحمة… هذه مبادئ وليست أفكار. 

المبدأ سابق للفكرة، إنه أصل لا يُشتق من نزوة، ولا من مصلحة، ولا من سياق زمني، بل ثابت، كوني، أخلاقي، يتجاوز السياقات والسلطات. لا ينتمي إلى أيديولوجيا، ولا يُختزل في لحظة سياسية.

الفكرة تُستعار وتُروَّج، أما المبدأ فلا يُزوَّر. 

الفكرة تُختبر في الكتب، أما المبدأ فيُختبر في الضمير.

لهذا، فإننا لا نختبر صدق الفكرة بجمالها النظري، بل بمدى إخلاصها للمبدأ. الفكرة التي تفشل في اختبار المبدأ، تسقط، مهما بدت بديعة على الورق.

لنأخذ مثالًا صارخًا: الحرية والليبرالية

الحرية مبدأ. لا يختلف عليه عاقل. حرية الضمير، والفكر، والاعتقاد، والتعبير، والعيش بكرامة… هذه حقوق إنسانية لا تُنتجها فلسفة، بل يوقظها الضمير البشري السليم.
لكن، ماذا عن الليبرالية؟
الليبرالية ليست هي الحرية، بل تأويل مخصوص لها داخل بنية النظام الرأسمالي الغربي. إنها فكرة. الشكل الذي صاغت به الحداثة الغربية مفهوم الحرية، وصدّرته إلى العالم على أنه المعنى الوحيد الممكن لها. وبهذا، تحوّلت من فكرة إلى عقيدة، ومن اجتهاد إلى معيار كوني لا يجوز المساس به.

تمجّد الليبرالية “حرية السوق”، لكنها لا ترى بأسًا في سحق حرية الشعوب في تقرير مصيرها.
تُدافع عن حرية التعبير، لكن ضمن حدود ما لا يزعج سلطتها، مثلاً: هي تسحق مناهضي إسرائيل في الغرب.
تؤمن بحرية الاعتقاد، لكنها تضيق على الحجاب والمآذن بحجة الهوية.

 تحترم حق الإنسان في “الحياة”، لكنها تسكت على موته إن كان في غزة أو اليمن أو إفريقيا.

أي أنها تنتقي من الحرية ما يوافق مصالحها، وتقصي ما سواها.

الليبرالية ليست مبدأ، بل فكرة تأويلية للحرية، تجرّدها من بعدها الأخلاقي، وتوظّفها لصالح النظام الذي نشأت فيه.

لهذا، نقد الليبرالية لا يعني رفض الحرية، بل دفاع أعمق عنها من أن تُختزل في تأويل رأسمالي متحيّز.
ومساءلة الليبرالية ليست غريبة، بل مطلوبة، حين نكتشف أن (الفكرة) راحت تصادر (المبدأ)، وتقدّمه لنا وكأن صورتها هي الأصل، لا اجتهاد ممكن الخطأ.

المؤسف أن كثيرًا من مثقفينا يجرؤون على نقد النصوص الدينية، ويطالبون بقراءتها بوصفها نصوصًا بشرية، لغوية، ثقافية، قابلة للنقد والتجاوز، لكنهم لا يمتلكون الجرأة ذاتها حين يتعلق الأمر بأفكار بشرية مثل التنوير، أو الليبرالية، أو الديمقراطية.

الثابت عندي ليس الفكرة، بل المبدأ.

المبدأ هو الميزان الأخلاقي الذي أختبر به واقع الفكرة. فالفكرة التي لا واقع لها لا حقيقة لها.

 السؤال هو: هل ما زالت الفكرة مخلصة لكرامة الإنسان؟ لا يشفع لها تاريخها، ولا أسماؤها، ولا نوايا من حملوها ذات يوم. وحده الموقف الأخلاقي يصمد أمام الزمن.وما لا يصمد في محكّ التجربة، لا يحق له أن يرفع راية المبدأ. بل سقوطها دليل على أنها لم تكن أمينة له.

 وكل فكرة تخون هذا المبدأ، تسقط من عيني، ومن ضميري، ومن معجمي، مهما لمع بريقها، ومهما تفنّنت في الادّعاء.

باختصار…
ما يصمد من الأفكار:

هو ما وُلد في الإنسان، لا في الخطاب.
ما عاش في التجربة، لا في التنظير.
ما انتصر للمقهور، لا للقاهر.

 

قيم المنشور!

نتیجة 5.00
باسمة القصاب

باسمة القصاب

نصف جناح ونصف جسد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  • ×
    تسجيل الدخول / العضوية