تبيع كرامتك بألفين جنيه يا فندم؟
في سكتش تمثيلي ساخر، تقف دينا الشربيني في متجر وهمي يرفع شعارًا بسيطًا وصادمًا: “نشتري كل شيء”. يدخل شاب فقير، يجرب بيع ما في جيبه من أشياء تالفة وتافهة: ولاّعة خربانة، هاتف قديم، قشر لُبّ، تُدفع له أموال مقابلها، أكثر مما كان يتوقع. تغمره الدهشة، ويبدأ رحلة البحث عمّا يمكن بيعه بعد، يعرض ملابسه الداخلية، ثم بكل سلاسة، تنزلق البائعة إلى عرض ما لا يُشترى عادة: “تبيع كرامتك بألفين جنيه يا فندم؟”. تُقال ببساطة عابرة، وكأنها عرض تجاري لا أكثر. وهنا، يكمن لبّ الاستدراج: فالبائع لا يشتري الأشياء، بل يشتريك أنت نفسك.
ولأن العرض مغرٍ، والمبلغ (حلو)، والنتيجة لا تبدو خطيرة، يقبل، يظن أنه المتحكم، لكن الحقيقة أنه ينزلق لبيع جوهره على أقساط. الشاب، بعد بيعه كرامته، يكون سهلاً عليه بيع مبادئه، ثم أحلامه، ثم طموحاته، ثم ذاكرته، وتاريخه، حتى يصير مسخاً فارغاً، حينها تستعاد منه الأموال بكل سهولة، ويلقى في المزبلة.
لا أعرف عدد المرات التي شاهدته فيها هذا المشهد منذ سنوات، وما زلت أعود إليه كلما مرت أحداث تضغط عليك لتبيع مع البائعين، وإلاّ صرت مؤزّماً وسببًا لكل مشاكل الكرة الأرضية. ما يحدث اليوم في غزة وسوريا ولبنان هو النسخة الواقعية من هذا المتجر: المشتري واحد (القوى الاستعمارية وحلفاؤها)، والبائعون كثر (من يرفعون شعار “الواقعية” و”الضرورات”). المشهد ليس مجرد عرض تجاري مبتذل، بل تشبيه عميق لآلية التطبيع مع الاحتلال، أو قبول “الحلول” التي تُفرّط بالحقوق تحت مسمّى (عدم منح العدو الذريعة)، أو تحت ضغط (الجوع) أو (التهديد). الفارق الوحيد أن الواقع أكثر دمويةً: فبدل “ألفي جنيه”، الثمن قد يكون فك الحصار، أو رفع العقوبات، أو مجرد البقاء على قيد الحياة.
يرينا هذا السكتش كيف يتم سلخ الإنسان من ذاته، وتحويله إلى مجرد شيء. تستهدف اللعبة وعيك، توهمك أنّك الرابح، وأن تفويت الفرصة خسارة لك وحدك. “البيع” هنا ليس مجرد صفقة، بل فعل تنازل، تخلي تدريجي عن مكامن قوتك. في السياسة كما في المتجر الافتراضي، يبدأ البيع بالتنازل: تخلى عن المقاومة، تخلى عن السلاح، تنازل عن جزء من الأرض، إقبل شروط “المساعدات”، تخلى عن حلفاء الأمس. لكن اللعبة واحدة: توهمك أنك عندما تبيع، فأنت تتخلّص من أشياء تضرّك، أشياء انتهت صلاحيتها الواقعية، أشياء تالفة لم تعد تعمل، تمامًا كما يُقال للفلسطيني إن “المقاومة عبء”، وللسوري إن “السيادة رفاهية”، ولللبناني “الاقتصاد أولًا”.
كل قوة تريد مسخك، تعرف من أين تبدأ: تسقط كرامتك أولاً. لأن الكرامة أصل كل مبدأ. هي الحارس الذي يمنع القيم من الانهيار تحت ضغط الإغراء أو الحاجة. من يبيع كرامته، لا يعود يملك ما يُمسك بمبادئه. لأنها، ببساطة، لا تقف من تلقاء نفسها، بل تستند إلى الإحساس العميق بأنك ثمين، عزيز، لا تُشترى. وحين يسقط هذا الإحساس، تُصبح القيم كلها قابلة للتأجيل، للمساومة، للطمس البطيء.
هذه الآلية لا تحتاج إلى مسدسٍ مصوبٍ إلى الرأس، بل إلى محفظة مفتوحة أمام العين. المال، أو ما يمثّله من مكتسبات مادية، هو الأداة لتليين المقاومة الأخلاقية، تمامًا كما فعلت “صفقة القرن” عندما حوّلت القضية الفلسطينية إلى “صفقة استثمارية”، أو كما تفعل العقوبات على سوريا ولبنان عندما تحوّل الكرامة إلى سلعة في سوق المقايضة.
الانحدار لا يأتي فجأة، بل ناعمًا، مدهوشًا، يشبه التزحلق على حرير. هكذا يتحول الاحتلال إلى “نزاع”، والمقاومة إلى “عنف”، والتطهير العرقي إلى “تهجير مؤقت”. لا ألم فيه، لكن تحته سحق صامت للروح. وفي النهاية، يصبح السؤال: من يشتري مَن؟ هل أنت الذي تبيع، أم أن النظام العالمي هو الذي اشتراك بالفعل دون أن تشعر؟
لذا، حين يُفرّط الإنسان في كرامته، لا يفرّط في قيمة واحدة، بل يخلع الدرع الحامي الذي يمنع بقية المبادئ من السقوط. هذا هو الدرس الذي تعلمه غزة كل يوم: أن الرفض، مهما كان مكلّفًا، هو ما يحفظ هويتك من الارتهان. أما التنازل، مهما صوَّرهُ الواقع الأليم معقولًا، هو بداية الطريق إلى العدم، إلى بيع ذاكرتك، وتاريخك، ووجودك، والتخلي عن حكايتك، تصير لا شيء، تصير أي شيء. لكنك، لا تعود تساوي شيئًا.