فوضى حميمية..
(1)
مع ثلة من أصدقاء ومحبي الفلسفة، جاء احتفالنا باليوم العالمي للفلسفة في 18 نوفمبر الماضي. الاحتفال يقام للمرة الأولى في البحرين منذ أقرت اليونيسكو في 2002 الخميس الثالث من نوفمبر كل عام يوماً عالمياً للفلسفة. ميزته أنه جاء عفوياً وحميمياً ومرحاً، وبطريقة غير مُمأسسة ولا جماهيرية ولا متكلّفة ولا معقدة التنظيم، اقتصر على عدد من المشاركين والمهتمين والأصدقاء الذين تعنّوا له بشغف وتفرغوا له بحب، ما أتاح لنا الدخول في قراءات متعددة وطرح الإشكالات والتحاور حولها بطلاقة ومرونة كبيرتين.
لم يقتصر برنامج الاحتفال على النص الفلسفي الصرف «كما في فعالية قراءة نص كانط « ما الأنوار؟»، بل تداخل مع الرواية «قراءة في رواية الفيلسوف: ابن سينا أو الطريق إلى أصفهان»، والسينما «مشاهدة ومناقشة فيلم الفيلسوف تولستوي: المحطة الأخيرة»، والرسم «ورشة النص الفلسفي والتشكيل»، والموسيقى «فلسفة العود عند إخوان الصفا»، وفي كل أمسية كان ثمة تعارف جديد ينتظرنا مع مهتمين جدد من حقل جديد، وكانت الفلسفة هي الجامع الذي يفتح الحقل على الآخر بسلاسةٍ وحيوية ومتعة. كان كل حقل مهيئاً للانسجام مع الآخر الذي يبدو بعيداً. ترددت مثلاً بشأن مدى تذوق الرسامين للنصوص الفلسفية، لكني تفاجأت بهم يدخلونها بمرح رشيق وبفلسفة خاصة. تلك التي جعلت النصوص تبدو فرحة باللون مزهوة بفعل الفرشاة فيها. يمكنني أن أقول أن الاحتفاء أتاح لي أن أتذوق أكثر مقولة سيوران «المعرفة هي ثمرة فوضى حميمية». الفوضى التي تجمع حقول مختلفة، وتخلق بينها بهجة كشف مشتركة، وتمازج ملون حميمي. وبالمناسبة، المقولة فتحت أيضاً شهية عدد من الفنانين المشاركين في ورشة الرسم، وصارت موضوعاً للوحاتهم وحواراتهم وضحكاتهم العابرة ليلتها. لماذا هي بالذات؟ ربما لأن الرسم، في شيء من أصله، هو فوضى أنيقة.
(2)
على رأس صفحتي الخاصة في الفيس بوك وضعت المقولة السابقة لسيوران. الكاتب الصحفي عقيل سوار ترك لي تعليقاً يستشكل الفوضى التي أحتفي بها. كتب: «السؤال كيف «نُعرِّف» الفوضى الحميمية من تلك التي أصبحت بعد سيوران «الفوضى الخلاقة» في خضم الفوضى العارمة التي تجتاحنا؟ هل من حالة العراق مثلا حيث أصبح الضحايا قتلة؟ أم مما تتوعدنا به حالتنا البحرينية؟».
في رأيي الخاص، أن ما يجري في مناطقنا في الحالة العراقية أو الحالة البحرينية لا علاقة له بفوضى الفلسفة الحميمية، بل بفوضى السياسة العنيفة، وفارق كبير بين فوضى الفلسفة وفوضى السياسة.
فالأولى، أي فوضى الفلسفة، ناتجة عن تفكيك الأطر «الثقافية والدينية والعرقية والسياسية والطائفية والقبلية والجماعاتية والمؤسساتية» التي تحكم فكر الإنسان، هي تعمل على تضييق سلطة تلك الأطر وفك هيمنتها على عقل الإنسان. ولأن التفكيك عملية تقتضي الشك والسؤال والحيرة، ولأنها تتضمن النبش والحفر والتقليب والتنقيب والكشف و«الخروج عن» و«التحرر من»، لذلك فالفلسفة فوضى بهذا المعنى. باعتبار ما تفسده من اطمئنان الإنسان ليقينياته الجاهزة التي ألقتها عليه ثقافته.
الفلسفة تطرح الإشكالات التي تُحرج سلطة الأطر وتُهدِّد إحكامها. لا يمكن للفلسفة أن تعمل من داخل إطار. من لم يملك جرأة أن يتجاوز إطاره لا يمكن له أن يرى خارجه. الفلاسفة عبر التاريخ كان يبدأ تنويرهم الخاص بعد أن يتحرروا من سلطة إطاراتهم الفكرية والثقافية والدينية التي شكلتهم في مراحل حياتهم الأولى. ما إن يتجاوزوها حتى تبدأ إشكالاتهم الفكرية تغوص عميقاً في مآزق مجتمعاتهم. إنها إشكالات من صميم واقعهم ومن صلب ثقافتهم.
الفلسفة تقوم على جعل الإنسان يصل إلى فهمه بنوره الخاص. الفوضى هنا ناتجة عن تعدد الأفهام، والفلسفة تحتفي بهذا التعدد. لهذا فهي فوضى حميمية يكتمل بعضها بالبعض الآخر ويتداخل.
أما فوضى السياسة، فهي مختلفة تماماً، هي فوضى ناتجة عن احتكاك الأطر بعضها مع بعض، عن اصطدامها بعضها ببعض، عن اصطكاكها بعضها ببعض. السياسة فوضى القوة. من يملك القوة يتسيد ومن لا يملك يُسحل. هكذا نجد الأطر السنية تتذابح مع الأطر الشيعية في العراق مثلاً، والأطر الدينية هنا أو هناك، تتقاتل مع من يمثلون لها خصوماً دينيين.
السياسة بما هي فوضى القوى، تستنفر الأطر وتجعل الجماهير ترتهن إلى إطاراتها أكثر وأكثر. تجعلها ملتفة حول إطاراتها التي تعتقد فيها خلاصها ونجاتها وأمنها وحماية هويتها ووجودها الخاصين. السياسة تُعلي صوت الإطار «صوت الطائفة حيناً والجماعة حيناً والحزب حيناً والقبيلة حيناً والعرق حيناً والدين حيناً واللغة حيناً» وتحشد له وتصور خارجه أعداء يستهدفون الكبو بإطارنا الخاص لإعلاء أطرهم الخاصة. لذلك هي فوضى دموية عنيفة لا حميمية فيها.
(3)
يمكننا أن نفهم الفرق بين الفوضى الحميمية (الفلسفة) والفوضى العنيفة (السياسة)، بتأملنا الفرق بين دائرة الفيلسوفة هيباتيا التي كانت تشتعل بطلابها فكراً داخل مكتبة الإسكندرية في القرن الرابع الميلادي، وبين خارجها، حيث ساحة الجدل العام «أجورا»، يشتعل بها أصحاب الأطر الدينية والسياسية حرباً في الوقت نفسه «1». بين «فوضى» درس هيباتيا الذي جمع المتناقضين في دائرة يسمي بعضهم بعضاً أشقّاء، يحترم كل منهم الآخر ويتساوى به، وبين فوضى أجورا التي راحت تستعر بالمختلفين، وتحتفي بمذابحهم وتحشدهم للموت، تلك الفوضى التي سريعاً ما سيعلو صديد أوارها، وستجتاح المكتبة العظيمة، لتحرق كتبها عن آخرها، ولتحول كل شيء إلى فوضى تشبهها بلون الدم، ولتنتهي بسحل هيباتيا في شوارع أجورا، وهي حية!!
لا يمكن أن نتجاوز فوضانا العارمة ما لم نتجاوز فوضى أطرنا المستحكمة، ولن يحدث ذلك دون فلسفة تحرر أذهاننا من صيغ هذه الأطر، وتطلقنا نحو فضاء حميمي إنساني نتشارك فيه.
هامش:
(1) «نفس هيباتيا الأخير». صحيفة الوقت. العدد 1443- 2 فبراير