» مقالات » احتلال فكري
مقالات

احتلال فكري

4 يونيو، 2009 60132

 

 

قال لي: “ألا تتفقين معي بأن الاحتلال نوعين؛ احتلال بمسمى الاستعمار، أي الاستيلاء على الأراضي بما فيها من مقدرات، وإخضاع شعبها لسلطة المحتل، وتغيير تركيبة البلد الديمغرافية وفرض ثقافة المحتل .واحتلال آخر ينطبق على حكام الأنظمة القابعة على كراسي السلطة؛ المطبلة للديمقراطية في حين هي تجمع ثروتها عن طريق النهب وتكوين امبراطوريات مالية. تلك التي تنثر فتات الخبز على شعوبها، في مقابل الترف والثراء الفاحش والاستحواذ على الأراضي وتغيير التركيبة السكانية لبلدانهم؛ بذريعة منح الجنسية؟”

قلت: أتفق معك، وأعتقد أيضاً، أن كل ما يربض فوق مساحة تخصك، يمنعك عن أن تكون في حريتك، هو احتلال. سواء أكان هذا الاحتلال دولة تستوطن أرضك، أو حكم ينهب ثرواتك، أو نظاماً يسلب كينونتك، أو كان غير ذلك؛ جماعة تحكم خياراتك، أو حزب يؤدلج فكرك، أو قيادة تخضعك لحكمها، أو أو.. كلها احتلال واحد بوجوه متعددة..

كان (هو) ذاهب إلى الاحتلال بمفهومه السياسي، وذلك بحكم ما يشغله من همّ سياسي، وكنت (أنا) ذاهبة إلى الاحتلال بمفهومه الفكري، بحكم ما يشغلني من همّ ثقافي، فكانت عينه تحدّق جهة الأنظمة والحكومات، وكانت عيني تحدّق جهة الجماعات والولاءات، ليس لأن همّ الأنظمة بالنسبة لي أقل من همّ الجماعات، لكن لأننا دائماً ما ننسى في غمرة همّنا السياسي الآخذ بعقولنا وحواسنا وأحاديث يومياتنا، أننا مبتلون بهم آخر لا يقل خطورة عن الأول، بل ربما هو سبب مآزقنا السياسية في كثير من الأحيان، أعني الهمّ الفكري.

الاحتلال هو سيطرة تامة النفوذ على منطقة خاصة بك. سواء أكانت هذه المنطقة أرض أو مُلك أو ثروة أو عقل أو فكر. يمنعك هذا الاحتلال من التعاطي الحر من خلال هذه المنطقة أو معها. يجعلك خاضع لحكمه وإرادته. السيطرة ليست بالضرورة أن تأت على شكل سلطة عسكرية، بل قد تأت على شكل سلطة رمزية (مجتمعية أو ثقافية أو دينية أو جماعية). السيطرة قد نعيها أو قد لا نعيها، وقد نعتبرها جزء من تكويننا وجزء من ثقافتنا، بل جزء من حريتنا.

ليست هناك منطقة أكثر خصوصية من القلب والعقل. القلب يصير محتلاً حين يقع في قبضة نفوذ حب جارف يذهب به، يجعله في أمره ونهيه وحكمه وحركته وسكونه. والعقل يصير محتلاً حين يقع في قبضة نفوذ (سلطة) تتحكم فيه وتسلبه أن يكون مساحة تفكير حرة، لكن فرق كبير بين الاحتلالين، فالأول يضيؤك فيما الثاني يطفيك.

لا يعترف الاحتلال (السياسي، الفكري) بالذات الإنسانية بوصفها ذاتاً حرة مستقلة قادرة على إدارة أمورها بنفسها واتخاذ قراراتها الخاصة فيما يتعلق بأمور حياتها السياسية والاجتماعية والفكرية، بل يتعامل معها بوصفها ذاتاً هشة ضعيفة تابعة غير قادرة على تحديد واختيار الأفضل مما يناسبها، لهذا هو يجعل من نفسه وليها وحاميها وراعيها، يمارس من خلال هذا (الجعل) مبدأ سيادته ووصايته، فهو يسن القوانين، ويشرّع الحدود، ويملي الأعراف المجتمعية أو السياسية أو الفكرية التي يجب أن تتأطر وفقها هذه الذات.

الاحتلال يوهمك أنك ضعيف في غير حمايته، يحذرك أن تكون خارج وصايته. أنت لا تعرف ما ينتظرك من أخطار فيما لو خالفته وخرجت عن سلطته (حمايته)، لكن الاحتلال يدرك ويعرف، والعارف ليس كالجاهل: أنت الناقص ببصيرتك، وهو النافذ البصيرة. يخيفك (ببصيرته) مما قد تتعرَّض له لو أنك سلكت بعقلك وحدك. يعمل فيك بنظرية الخوف ليتمكن منك “إذا أردت أن تسيطر على أحد ما، فأوهمه أنه خائف”. يصور نفسه أنه وجود مرهون بحاجتك أنت، أنه منقذ ومخلَّص جاء من أجلك، وأن لا مصلحة تنتظره غير تحريرك.

وإذا كان المُحتل سياسياً (دولة أو شعباً) يعي ما يجري عليه من وقع الاحتلال، فهو في رفضه ومقاومته، وهو في الوقوف أمامه والتصدي إليه، وهو في رفض ما يُفرضه عليه من أحكامه وقيوده، في تطلع دائم لما يتحرر به منه، فإن المحتل فكرياً غالباً ما لا يعي أن عقله كذلك، ولا يرى أن هناك ما هو مفروض عليه، بل يرى أن عقله يختار بإرادته الحرة ما نشأ عليه من فكر أو عقيدة أو انتماء أو ثقافة أو أعراف أو عادات، وأنه لو تُرك وعقله لما اختار غير ما هو عليه الآن. هو مقتنع أن ما يحمله من فكر يسير في مجرى نواميس الطبيعة والفطرة والحقيقة. وأن الآخرين (المختلفين عنه فكرياً)، متى ما تحرروا من أهوائهم وتجردوا من ميولهم الشخصية، فإنهم حتماً سيختارون حقيقته، وسيؤمنون بها دون غيرها.

يصير الفكر محتلاً، حين يمكِّن (ثقافته أو جماعته أو انتمائه) من أن تكون سلطة مسيطرة عليه، تحده وتحدد مساره وجهته وغاياته ومراميه وتحركاته، حين لا يتجرأ أن يغادر مألوفها إلى مجهول ما لا يعرف، حين يصدر عن حدودها وقوانينها المرسومة له سلفاً، يتحرك خلالها ولا يسمح لنفسه بتخطيها أو تجاوزها. حينها يتحول الفكر من أرض مترعة لا حد لها، إلى ممر ضيق. يقول سارتر: “إنه لمن المفارقة الصارخة أن يشبه وضع الرياضي، وذهنه، وضع رجل منخرط في ممر مفرط في الضيق، حيث كل خطوة من خطواته وحتى وضعيّة جسمه تكونان مشروطتين بطبيعة الأرض، وبضرورة المسير، ويكون مع ذلك، مقتنعاً بيقين لا يتزعزع، بأنه يقوم بكل فعل من أفعاله بحرية تامة”.

المحتل سياسياً، لا يقبل السير في مثل هذا الممر الضيق إلا مرغماً، ناقماً على احتلال مساحة أرضه وإجباره على السير في مثل هذا الضيق، لكن الإنسان المحتل فكرياً ليس كذلك، هو يسير في هذا الممر الضيق وهو متيقن من أن كل حركة من حركاته المشروطة بهذا الممر، إنما يقوم بها بحرية تامة. ترى كم منا متيقن أنه غير محتل فكرياً؟

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=11792

قيم المنشور!

باسمة القصاب

باسمة القصاب

نصف جناح ونصف جسد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  • ×
    تسجيل الدخول / العضوية