رسوب منتظري
(1)
كان قرار عزل آية الله منتظري عن خلافة الإمام الخميني في ولاية الجمهورية الإسلامية في إيران، مفاجئاً للجميع، ولنا نحن الجيل الناشئ، ممن تفتح وعيه الديني والسياسي متأثراً بالثورة الإسلامية في إيران، ومتشكلاً بمدّها وتداعياتها في المنطقة. جاء قرار العزل قبل ثلاثة أشهر من وفاة الإمام الخميني في يونيو/حزيران .1989 لم يكن اسم منتظري بالنسبة لنا يشبه أي اسم آخر من أسماء رجالات الثورة. عُرف أنه الرجل الثاني في إيران الثورة، وأنه ”إذا كان الخميني يقود الثورة الإيرانية من الخارج، فمنتظري كان أبرز أولئك الذي قادوها من الداخل”. لعلّه لم يُذع حينها عبر إذاعة طهران (التي كانت أبرز قناة لإيصال صوت الثورة)، تفسيراً مفصلاً يجيب على التساؤلات الكثيرة التي أثارها العزل المفاجئ آنذاك، على الأقل هذا ما أذكره الآن، ولم تكن وسائل الإعلام بمثل تنوعها الآن، بما يمكِّنك أن تصل إلى الأصوات المختلفة ودفاعاتها. عن نفسي، لم أعرف حينها، أكثر من أن منتظري (عُزل) أو (قدّم استقالته) لاختلاف بينه وبين الخميني حول موضوع ولاية الفقيه. الإجابة ضيقة ومبتسرة نعم، لكنها بالنسبة لفتاة متحمّسة، أحادية التفكير، متعصبة لشخص الإمام الخميني، يهمها بالدرجة الأولى تحديد مواقفها وإصدار أحكامها على الأشياء لا فهمها؛ فقد كانت تلك الإجابة كافية لإصداري حكماً مطلقاً على منتظري، وعزله في دماغي الصغير داخل خانة (ساقط). نعم هكذا. السقوط خروج عن الصراط المستقيم نحو صراط أعوج. والعزل يعني أن لا أقرأ له، لا أسمع له، لا أتأثر بآرائه.
ليس أكثر راحة من أن تتحصل كلمة تختزل شخصاً (أو جماعة أو معنى). تختم بها عقلك داخل حكمك. فلا يعود عقلك يزعجك بعدها بأسئلته المضطربة. فالسؤال حيرة ومشقة. وكلما قل وضوح الأمور أو جرى تمويهها، أوقعك السؤال في عجز أن تصل إلى حكم يقيني حاسم، فيبقيك أسير بلبلته. مثل هذه الحيرة، لا تتفق مع طبيعة عقلٍ يقينيٍ حاد، مشدود نحو إصدار الأحكام وإطلاقها. ولأن عقلي الناشئ حينها، لم يكن مهيأً لهكذا حيرة مركبة، فقد أسقط منتظري سريعاً، وقام بعزله، وأراح حيرته وأسكت سؤالاته.
(2)
استعادت ذاكرتي شيئا من ذلك التاريخ، وأنا أطالع الصحف التي تناولت شيئاً من سيرة منتظري بعد وفاته في التاسع عشر من ديسمبر/ كانون الأول الجاري. توقفت كثيراً أمام عنوان لافت يقول على لسان آية الله السيد علي خامنئي: منتظري رسب في الامتحان. ينقل الخبر عن خامنئي في برقية أرسلها معزياً بوفاة منتظري، إن ”الله امتحن منتظري في الأيام الأخيرة من حياة الإمام الراحل، امتحاناً صعباً وخطراً، فنسأل الله سبحانه أن يشمله بمغفرته ورحمته ويجعل من المشاكل الدنيوية كفارة لتلك المرحلة”، في إشارة من خامنئي إلى أن منتظري رسب في ذلك الامتحان. وكأن المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية عبر استحضاره الضمني، لكن الصريح بـ(رسوب) منتظري في برقية التعزية، كان يستهدف الجماهير الإيرانية المؤيدة لأفكار منتظري، والمتعاطفة مع ما لقيه من عزل وإقامة جبرية وتهميش وإقصاء طوال 23 عاماً بعد وفاة الخميني. فكأن خامنئي يُعلم الجماهير، أن كل هذه العقوبات ليست سوى كفارة دنيوية لمنتظري عن ذلك الرسوب، وأن من يؤيد أفكار منتظري، فكأنه يؤيد رسوبه في الامتحان الإلهي الصعب.
بهذا الاقتضاب الموجز في صور ثلاث: الامتحان الصعب، الرسوب، الكفارة، تُختزل حياة منتظري كلها. توحي لنا أن كل نضالاته المعروفة وجهاداته وما عاناه في السجون والتعذيب وكل تجربته السياسية ومكانته العلمية والفقهية وأفكاره ورؤاه وشخصه، كل ذلك لا معنى له أمام الرسوب الذي ختم عليه. هذه الصورة المختزلة لمنتظري ستعمل تلقائياً على عزله في أذهاننا ووضعه في خانة الساقط. وهكذا ترتاح الأذهان (اليقينية والخائفة من الرسوب) من السؤالات المزعجة والمربكة التي قد تريها وجهاً آخر لا ترغب يقيناتها في رؤيته. تماماً كما فعل عقلي الصغير الأحادي، وغير المهيأ للتركيب والتعقيد منذ سنوات. هذه الصور التي ثبّتها المرشد الأعلى للثورة حول منتظري، ستحيل بين الكثيرين وبين محاولة الاقتراب من فكر منتظري أو معرفته وفهمه (ليس بالضرورة تبنيه أو تأييده). بل ستحيل حتى دون إصدار بيان تعزية أو إقامة مجلس تأبين على روحه كما تجري عليه العادة (في البحرين مثلاً)، بعد وفاة أحد المراجع أو رجال الدين.
(3)
الحكم برسوب منتظري، لم يأت إثر خيانة منه للثورة أو لرجالاتها، ولا إثر تعاون مع أعداء خارجيين، فهذا غير وارد أمام شخصية معروف إخلاصها مثل منتظري، لقد دعم منتظري مشروع الثورة من البداية، في حين شكك بعض رجال الحوزة في أهميتها ومستقبلها منذ أن كانت فكرة. ليس «الرسوب» إذن سببه نكوص عن الثورة أو خذلان لها، لكنه ناتج عما وصفه منتظري في مذكراته بـ«اختلاف الآراء بيني وبين الخميني»، وكان أحد وجوه هذا الاختلاف التعاطي مع المعارضين السياسيين من أعضاء ومؤيدي منظمة مجاهدي خلق والمنظمات اليسارية الإيرانية. رسب منتظري لأنه اختلف ولأنه أعلن اختلافه. ففي مجتمعاتنا الاختلاف عن صراط الجماعة اعوجاج وزوغان وانحراف عن الصراط المستقيم. الاختلاف رسوب يجب أن تدفع كفارته طوال حياتك.
رسب منتظري لأنه أعلن احتجاجه على الإعدامات التي بلغ عددها نحو 3400 على يد السلطات الإيرانية في .1988 ولأنه بقى حتى قبل وفاته يعلن رفضه لقمع الحريات السياسية والإعلامية بكل أشكالها: ”أليس من العار أن بعض الأشخاص سيذهبون إلى الجحيم، بسبب آراء آخرين؟”.
رسب منتظري لأنه رفض إضافة كلمة «مطلقة» إلى كلمة «ولاية الفقيه» الواردة في الدستور الإيراني، والتي تم إضافتها بعد رحيل الإمام الخميني. رسب لأنه اعتقد بولايةٍ يشرف فيها الفقيه على الدولة بموافقة الجماهير، وأن تترك الساحة السياسية لخبراء السياسة بدلاً من رجالٍ الذين يراهم أصحاب رؤية أحادية، بسبب طبيعة التفكير الديني.
رسب منتظري لأنه يرى أن الفقه لا يخص حقوق ”المؤمن” فقط بل حقوق ”الإنسان” أياً كان دينه أو معتقده، لأنه يعترف بحقوق الأقليات الدينية وخاصة البهائيين والقوميات غير الفارسية. ولأنه أعلن أن «ما أقصده هو أن كل البشر، سواء كانوا من المؤمنين أم لا، وسواء كانوا مسلمين أم لا، يجب أن يحظوا بالاحترام».
رسب منتظري لأنه أراد أن ينجح كل الناس، لا بعض الناس. وهكذا أنت ترسب أيضا، ترسب حين يكون همّك أكبر من جماعتك وأكبر من طائفتك وأكبر من أهل ملتك أو جنسك أو عرقك، ترسب حين يكون همّك الإنسان.
لمشاهدة المقال والتعليقات http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=12353