في أحلام البحرينيين
(1)
كان أفلاطون يحلم بالوصول إلى مدينة فاضلة.
وكان غاندي يحلم بتحرير الهند من هيمنة أعظم إمبراطورية استعمارية دون اللجوء إلى العنف.
وكان جيفارا يحلم ببناء جنة اشتراكية عالمية ترفع علم المساواة في العالم أجمع.
وكان فورد يحلم بصناعة سيارة تكون في متناول الجميع وغير مختصة بالطبقة الغنية.
وكان بيل غيتس (أحد مؤسسي شركة مايكروسوفت ورئيس مجلس إدارتها الحالي وكبير مصممي برمجياتها)، يردد لمعلميه أنه سيصبح مليونيرا عند بلوغه ثلاثين عاماً، لكنه أصبح مليارديراً عند بلوغه الواحد والثلاثين..
وكانت الحالة رقم (6) التي نشرت على صفحات «الوقت» من «حالات»، تحلم بشقة إسكان قبل أن يأخذ الله أمانته.[1]
وكانت الحالة رقم (13) المنشورة تحت العنوان نفسه، لا تملك ثلاجة ولا فرناً، وتحلم أن يكون لها غرفة نوم.[2]
نتيجة: حلم الفيلسوف خيال، وحلم التاجر واقع، وحلم الفقير حاجة.
(2)
الفلاسفة والثوار يتيحون لنا أن نحلم بعالم جديد. يعيش فيه كل الناس، لا فئة من الناس. المؤمنون المؤدلجون يحلمون بعالم تعيش فيه فئة من الناس، لا كل الناس. والتجار يحلمون بواقع يحقق فرديتهم الخاصة وثراءهم الخاص، ولا يهمهم أن يبقى الواقع على ما هو عليه، مادامت ذواتهم ليست على ما هي عليه. أليس التجار غالباً ما كانوا يعارضون الثورات ويتهمون أصحابها بالتخريب والفوضى؟ وأليس الثوار والفلاسفة من يتهمون التجار بالتحالف مع السلطة وتقديم مصالحهم الذاتية على مصالح واقعهم؟ الخلاف بينهم في حقيقته هو خلاف في طبيعة الحلم. التاجر حلمه فردي والثائر حلمه جماعي. لكن أين يقع حلم الفقير؟
(3)
نعرف الناس من أحلامهم أكثر مما نعرفهم من واقعهم أحياناً. فالحلم إرادة تشير إلى صاحبها، تجعلنا نفهم وجوده في الحياة، هدفه الذي يحمله، مساره كما يرسمه لنفسه، ما يمثل أولوياته أو ثانوياته في الحياة، ما سيكون عليه لو أن أموره سارت على النحو الذي يريده. أما الواقع فهو إرادة مختلطة بما هو ممكن وبما هو غير ممكن في ظل سياق خاص، وحين تختلط الإرادة بالسياق تصير مرهونة به. فما يعيشه البحرينيون لا يقول أحلامهم بقدر ما يقول واقعهم.
نتحدث هنا لا عن ذاك الفيلسوف، ولا عن الثائر، ولا المؤدلج، ولا التاجر، بل إنسان الشارع الذي يعيش اليوم باليوم، ويكدح من أجل يوم غير مدّخر. لا يتردد البحريني في أن يعلن حلمه: أحلم بامتلاك بيت. أحلم بالحصول على وظيفة ثابتة ومستقرة. أحلم بامتلاك قطعة أرض. أحلم بإكمال دراستي الجامعية. أحلم بسيارة جديدة.. الخ. تمثل هذه أهم الأحلام الفردية التي تشغل الإنسان البحريني والتي يتنهد بها في كل مناسبة. وهي وإن عبّر عنها بوصفها أحلاماً، إلا أنها ليست كذلك فعلاً، بل هي في حقيقتها حاجات.
الحاجة هي مطلب إنساني محدد، يشعر الإنسان معها أن وضعه (الحياتي واليومي المعاش) ناقص من دونها وغير مكتمل ومشوش وقلق. هو فاقد للشعور بالأمن النفسي حتى يتوافر على قدر مناسب منه. ولذا فهو في سعي دائم إلى إشباعها أو التوفر عليها، لن يرضى ولن يهدأ قبل أن يحظى، ولو نسبياً، بها. يبقى الفرد تحت ضغط الحاجة وتحت ضغط توترها. يخرج التوتر على شكل اضطراب نفسي أو اجتماعي أو ثقافي أو سياسي. تتضخم الحاجة تدريجياً وتنغص على الإنسان عيشه، خصوصاً في زمن يسير إلى التضخم في كل شيء. يصير الفرد في حالة مستمرة من التمرد والسخط على الجهات التي يعتقد أنها مسؤولة عن تضخيم هذه الاحتياجات بدلاً من تخفيفها.
ولكي يعيش البحريني توازناً طبيعياً مع وسطه، فهو بحاجة إلى تأمين هذه الاحتياجات الأساسية والاستقرار بها. أما قبل ذلك فهو فيما ينتج عن عدم توافرها من إرباك في نفسه، وفي مجتمعه.
(4)
لكن كيف يكون الحلم هو محض حاجة معيشية؟ أليس في ذلك تضييق لأفق الحلم؟
الحاجة متى صارت مطلباً صعب التحقق أو غير ممكن، صارت أقرب إلى الحلم. فالحلم صار حُلماً لصعوبة الوصول إليه. فشراء الأرض وبناء البيت مثلاً، متى ما صارت حاجة بعيدة التحقق أو شبه مستحيلة؛ فإنها ستتحول إلى حلم. الأمر ذاته بالنسبة إلى غيرها من الحاجات المتواضعة نوعاً، لكن الأساسية معيشة.
أن تتحول الحاجات الأساسية في مجتمع ما إلى أحلام، أو أن تتيسّر لدى فئة مجتمعية من دون أخرى، فإن ذلك يجعل من أبناء هذا المجتمع (ذوي الحاجة) مستنفرين مستفزين سريعي الانفجار قبالة أي ضغط داخلي. يصير مجتمعاً مهدداً بالعنف. هناك مقولة تنشط في السياق العام في مثل هذه الحالات: ليس لدينا ما نخسره. في حين تبقى المجتمعات التي تحمي حاجات أبنائها أكثر تماسكاً وأكثر استقراراً، وأقل ميلاً نحو العنف. فمن لديه ما يخسره لن يجازف بالخسارة، ولن يساق سريعاً فيما هو عنيف أو متمرد أو مستنفر.
وباختصار: قل لي ما حلمك، أقل لك ما حالك.
(5)
الحركة التي قامت بها مجموعة العاطلين الجامعيين المعتصمين عند مبنى وزارة التربية والتعليم قبل أكثر من شهر[3]، حين تركوا بالونات الغاز ترتفع بشهاداتهم الجامعية إلى أقصى مداها في السماء، وتنتشر على أقصى سعتها في عرض الفضاء؛ تقصد أن تعرِّف بالحال، وأن تزدري الحلم.
كان الحلم القديم يقول: شهادتك مفتاح حلمك. وكان يقول: من يمسك شهادته بيده اليمنى، سيمسك وظيفته اللائقة في اليد اليسرى. لكن للواقع مقولات أخرى. هذه المقولات تنتفخ في بالونات غازية تتعلق في السماء.
أن يودِّع خريجون جامعيون بحرينيون أحلامهم في بالونات غازية، يعني أن الحلم صار أقرب إلى الوهم. هم يطيرون الأحلام لا الشهادات. تلك التي انتظروها بجهد المثابرة وبخيبة الواقع. الشهادة لم تعد حلماً بل همٌّ. أنْ تحمل شهادة غير قادرة على تفعيل نفسها في واقعك، فذلك عبء يضاف إليك، لا يخفف عنك. كأنهم يعلنون: لم نعد في حاجة إلى شهادة تزيد فينا الهم، وتكسر فينا الحلم. هكذا تطير بعيداً وسريعاً، بالونات أحلام الجامعيين العاطلين، قبل أن تعود هزيلة، منهكة من لفح الشمس، مثقلة بهواء مُحبط وخامل.
وهكذا تبقى محصوراً في أفق يغلقك على حاجة يومك، كي لا تتحرر إلى أفق يفتحك على حلم العالم.
لمشاهدة المقال والتعليقات http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=12540