في الثورة والدولة
(1)
«هل المطلوب أن تكون الدولة ”الأم تريزا” مثلاً؟ لم أفهم القصد ولا الوسيلة التي كان يمكن أن يتبعها آية الله منتظري في إدارة الجمهورية فيما لو قُدِّر له خلافة الإمام الخميني، والذي أعتقد حينها سينتقد أسلوبه فكر الكاتبة الخلاّق بذات القدر من الحماسة البيزنطية في الدفاع عنه».
التعليق السابق تركه أحد القراء على مقالي الأخير «رسوب منتظري»، وأياً يكن ما يرميه، فأعتقد أنه قد وضع يده على شقّ ذي أهمية كبيرة، أعني الشق الذي يفرّق بين الثورة والدولة. بين ما تمثله الثورة من حُلُم، وما تمثله الدولة من لَحَم «واقع». بين مثالية «ما قبل» الدولة، وواقعية «ما بعد» الثورة. ولعل هذا الشق بعينه هو ما يمثّل جوهر الاختلاف بين منتظري ونظام الحكم في إيران. منتظري الذي بقي عند مثالية حلم الثورة، ونظام الحكم الذي تجاوز المثالية، نحو واقعية الدولة.
الدولة «أي دولة» فعلاً ليست «الأم تريزا». فالأم تريزا تمثل الحالة المثالية للثورة. الثورة التي تؤمن بالفرد وبأهمية الفرد وبحق الفرد. تقول تريزا «أشعر أني مدعوة لخدمة كل إنسان ومحبته بطريقةٍ خاصةٍ به حسب حاجاته. وإنّني لا أفكّر قطعاً أن تكون محبتي شاملةً للجميع كأنّها دون تحديد، بل تهدف لمحبة كل إنسان بمفرده. فإذا فكرتُ بالناس جميعاً كجماعات وحسب، فهذا ليس حباً كما يريده المسيح. إنّ الفرد هو المعني بالحب الحقيقي». الدولة لا تشعر أنها مدعوة لخدمة كل إنسان ومحبته بطريقة خاصة به حسب حاجاته. بل ترى أن الفرد هو المدعو لخدمتها والانصياع لها وتقديم الولاء المطلق لحكمها أياً كان. وإلا صار مصيره خارج عنايتها، وداخل تهميشها وإقصائها.
الدولة فعلاً ليست «الأم تريزا». فأكثر ما يؤلم الأم تريزا هو حين يمر أحدهم بمريض أو طفل أو فقير من دون أن ينظر إليه. تقول تريزا: «إنّهم لا يعرفون معنى الشفقة ولا يأبهون لهؤلاء التعساء. ولو فهموا قيمة هذا الإنسان المتألم لكانوا تصرفوا بوعي وعرفوا أن الله يسكن فيه، وحينئذٍ يبدؤون بمساعدته وبخدمته كما خدمهم المسيح نفسه». ليس الإنسان، بل الدولة التي لا تعرف معنى الشفقة. لا تكترث الدولة بالتعساء القابعين فيها. تمر عليهم من دون أن تلتفت نحوهم، ومن دون أن تنظر إليهم، ومن دون حتى أن تأخذ بخاطرهم، كأضعف الإيمان.
الدولة فعلاً ليست «الأم تريزا». فالأم تريزا فرّغت نفسها لخدمة الإنسان من دون تمييز بين عرق أو لون أو دين. تريزا لم تعرف العنف يوماً ولم تتعاطاه. بينما الدولة لا يمكنها أن تكون كذلك أبداً. الدولة «وحش من جليد» كما يصفها نيتشة. وحش: لأنها عنيفة. وجليد: لأنها قاسية. لم تقم دولة في التاريخ إلا وفي البدء كان العنف. الدولة لا مفر لها من أن تكون عنفاً. لكن ثمة فرق أن تحتكر الدولة العنف، وبين أن تمارسه. قد تحتكر الدولة العنف بمعنى أنها تمنع العنف عن أن يصدر من أحد ضد أحد آخر. أي من أجل أن تضبط السلم. لكن حين تكون هي من يمارس العنف، ليمنع كل أحد من الاختلاف معها، فذلك شأن آخر. هنا تصير الدولة «وحش من فولاذ». فإذا كان الجليد قابل للذوبان والانصهار تحت حرارة شمس الناس، فإن الفولاذ يبقى دائماً ضربة قاضية فوق رؤوس الناس.
الأم تريزا تمثل الحالة المثالية للثورة. الحالة التي ترفض استبداد الدولة وتسلطها وعنفها وعدم اكتراثها بالتعساء والبؤساء وبحقهم في أن يكونوا أفراداً محترمة آراؤهم وحقوقهم داخل دولهم.
لهذا لم يكن منتظري «بالفعل» مناسباً للحكم بهذا المعنى، ربما لأنه بقي عند الحالة الثورية الأولى، ولم يتمكن من الانتقال إلى مرحلة الدولة التي كانت تستلزم طبيعة أخرى مختلفة تماماً، وهو ما عبر عنه بنفسه بوضوح، وكذلك الإمام الخميني في الرسائل المتبادلة المنشورة بينهما.
(2)
تولد الثورة كحركة إصلاح وتجديد. توصف بأنها «جلال الإنسان ضد حقارة العظيم». لا تقوم الثورة، حتى يكون «القوي قد فعل ما بوسعه، والضعيف قد قاسى ما يجب عليه أن يقاسيه»، أي حتى يبلغ كل من الطرفين مداهما الأقصى، فلا يعود الضعيف قادراً أن يقاسي أكثر، ولا يعود القوي قد فوّت شيئاً مما في وسعه إلا وارتكبه. لهذا حين تقوم الثورة يكون عنوانها التحرر من ربقة الاستبداد. تنفجر الثورة محمّلة بوعود الخلاص الأبدي: الفكاك من تسلّط «العظيم» الجاثم فوق صدور الناس وعقولهم وأرواحهم. تعويض ما هُدر من حقوق الإنسان وما ضاع من حقوق المدينة، القضاء على التهميش والإقصاء والاستبعاد والاستعباد، بسط العدالة الاجتماعية والمساواة، فك القيود المفروضة على الشعب والإنسان، حرية الرأي وحرية المعتقد وحرية الممارسة، حفظ حقوق الأقليات والضعفاء. بهذه الوعود تنطلق الثورة. ويلتف حولها الشعب يسلمها تأييده ونفسه وأعز ما يملك. تعلن الثورة حلمها الخلاصي المنشود. تستلهم مسيرتها مستنيرة ببطل خلاصي يقودها أو يُشعلها. يؤمن الأتباع أن نهاية الظلم والاستبداد مآله على يد أبطالها، وأنه بعد انتصار الثورة سينعمون بالحرية والاستقلال والخلاص، أن لا عودة للوراء، أن موعدهم صبح الانتصار.
لكن ما إن تنتصر الثورة، حتى يتحول الحلم إلى حقيقة أخرى. سريعاً ما ستعمل الثورة «التي صارت دولة»، على إخماد الأصوات المناوئة لها. فكل صوت مناوئ أو مخالف يمثل تهديداً لاستقرارها. سيعمل هذا الصوت على استمالة مجموعة أخرى من الأصوات التي ستستميل بدورها أصواتاً أخرى. سريعاً ما ستعمل الدولة «التي كانت ثورة»، على تهميش هذه الأصوات المشاغبة وعزلها وإقصائها أو سجنها ومحاكمتها. ستمارس ذلك على المختلفين معها بالقدر ذاته الذي كان يمارس ضد شخوصها وأفرادها قبل قيامها. وكلما كانت الأصوات قوية أكثر ومُقنِعة أكثر، صارت مصدر تهديد للسلطة أكثر، ما يعني مزيداً من التقييد لها. وعلى غرار النظام السابق، قد تلجأ الدولة «التي كانت ثورة»، باتهام هذه التحركات بأنها خيانة ومؤامرة وعمالة إلى الخارج، وهي التهمة التي لم ينج منها أي معارض أو مناوئ يرزح تحت وطأة أي حكم مستبد في العالم.
هكذا ستجد الدولة نفسها تعيد آليات الحكم القديم الذي حاربته عندما كانت ثورة. يقول سيوران: «الثورة الناجحة التي تستولي على السلطة، تتحول إلى ما هو عكس الاختمار والولادة فتكف عن كونها ثورة وتقلد، بل عليها أن تقلّد ملامح النظام الذي قلبته، وكذلك أجهزته وطريقة عمله. وكلما بذلت جهداً من أجل ذلك (وهي لا تستطيع أن تفعل غير ذلك) زادت في هدم مبادئها والقضاء على حظوتها». تنسى الدولة «التي كانت ثورة» أهداف الثورة سريعاً: التحرر من ربقة الاستبداد. تصير مهمتها الحفاظ على سيادة «السلطة»، لا على مكتسبات الثورة. الثورة التي يمثل الشعب أهم عنصر فيها. لكنه بعد انتصار الثورة يصير آخر همّها. وبعد أن كانت الثورة تقوم عليه وتعتمد عليه في نجاحاتها وانتصاراتها، تروح الثورة بعد أن تصل إلى سدّة الحكم «تفترس أبناءها»، بدلاً من أن تحقق لهم وعوداتها بالحرية والعدالة والحياة الكريمة.
سوسيولوجيا الثورات تخبرنا أن هذا هو حال الثورات عموماً. لا فرق بين ثورة وأخرى إلا في التفاصيل. ما شهده العالم أعقاب الثورة الفرنسية العام 1789 من سعار دموي رهيب، راحت ضحيته أرواح مئات الآلاف من الأبرياء تحت شعار الثورة، هو واحد من الشواهد الكثيرة على ذلك. الثورة «بعد نجاحها» تكف عن أن تكون ثورة بمفهومها الإصلاحي والتحرري، وتتحول إلى وحش فولاذي ضخم يصطدم بكل من يعارضها أو يختلف معها بغير ما تشتهي سلطتها.
هكذا يبدو وكأنه «ما من حالة ثورية حقاً إلا حالة ما قبل الثورة» كما يقول سيوران، وهكذا تمثّل الأم تريزا نموذج الحالة الثورية حقاً، أي حالة ما قبل الثورة. الحالة التي تقدم اللحم لكل الناس وتبحث عما يمس كل الناس وعما يحتاجه كل الناس، بينما تنهش الثورة «حين تصير دولة» لحم الناس الذين أوصلوها للسُدّة. يُغفر للدولة أن تكون وحشاً من جليد لحفظ النظام ولحفظ أمن الناس، لكن لا يبرر لها الضرب بيد من فولاذ على من يعارض سلطتها أو يختلف مع سياستها.
لمشاهدة المقال والتعليقات http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=12402