الشيخ علي سلمان.. مُخفِتٌ جهر به سؤال الانقياد
في مجلس أحد شيوخ العشائر، وقبل رواج أمر الثلاجات، يأتي أحدهم متحدثاً عن الثلاجة التي تبرد الأشياء بالكهرباء. يهب في وجهه أحد رجال الفقه والمنطق. مستحيل ما جاء به هذا الوافد: الحرارة لا يمكن أن تنتج برودة (مقدمة كبرى)، والكهرباء حرارة (مقدمة صغرى)، إذن الكهرباء لا تنتج برودة (نتيجة). يخجل الضيف أمام منطق الفقيه. يصمت.[1]
قبل أن ألتقي به لكتابة هذا المقال، كان يدور في رأسي فضولين معرفيين. من المهم بالنسبة لي أن ألمح أحدهما، وأفهم الآخر..
الفضول الأول كوني إمرأة وكونه عالم دين. يهمني أن أرى نموذجه الديني في تعاطيه المباشر مع امرأة أجنبية، وسط أحكام الشرع الخاصة بالمقابلة والخلوة والنظرة وغيرها. كيف سيكون التواصل الإنساني في هذا اللقاء؟ هل يمكن أن يأت اللقاء مستفيضاً تلقائياً في ظل هذه الاشتراطات والأحكام الشرعية؟
الفضول الثاني كونه سياسي، وكونه خفيت الصوت. هذه الثنائية (غير المتسقة في نظري) لم أستطع فهمها في كل مرة أراه متحدثاً. لم أفهم كيف يمكن أن يكون سياسياً من هو خافت الصوت دائماً، وقد تعودنا أن يخترق صوت السياسي (العالي دائما) طبلة آذاننا المثقوبة. لا يخفت صوت السياسي حتى يضج المكان تصفيقاً وهتافاً وشعارات. تبرد الشعارات ولا يبرد صوته.
منطقياً لم أستطع استيعاب كيف يمكن للحرارة (السياسة) أن تجتمع مع البرودة (الطبيعة). كيف يمكن للأولى أن تنتج الثانية. في المنطق الأرسطي الكهرباء لا تنتج برودة. لكن الواقع كذَّب المنطق وهزمه. ابتكر الواقع الثلاجة التي أنكرها عقل المنطق. فهل سيُخجل سلمان منطقي الذي لا يجتمع فيه الحار والبارد؟ هل سيقدم نموذجاً سياسياً جديداً تهزم نتائجه مقدماته الكبرى (الحار لا ينتج بارداً)؟ هل سينجح سلمان في أن يبتكر شخصية السياسي الهادئ، البارد، الخافت؟
قبل 25 نوفمبر
حملت معي هذين الفضولين، وفي جعبتي تساؤلات أخرى عن سيرته، وذهبت ألتقي رجل الوفاق الأول، الشيخ علي سلمان، الذي اختاره الشارع البحريني فيما بعد، وأعطاه أعلى عدد من أصوات ناخبيه، ليمثلهم في برلمانه المقبل.
اليوم هو العشرين من نوفمبر 2006، تفصلنا عن الانتخابات أربعة أيام. جلست في ردهة جمعية الوفاق التي أزورها للمرة الأولى. أترقب وصول أمينها العام الذي ألتقيه للمرة الأولى أيضاً. أطالع صحف اليوم. أقلب مطبوعات الوفاق. دقائق فقط. ثم يطل عليَّ سلمان بوجه بشوش. يدعوني للجلوس بابتسامة ترحيبية ودودة. الابتسامة أحدثت لـ(فضولي الأول) ارتياح أوليّ. يشير ناحية السلم. غرفة الاجتماعات في الطابق العلوي. نجلس هناك على طاولة عريضة متقابلين. الباب أقرب إلى الغلق منه إلى المواربة. لا تحضر إذن عند الشيخ (الخلوة) بمفهومها التقليدي. ثمة ارتياح آخر أشعر به.
يقوم ليحضر الماء والعصير. يدعوني للبدء معتذراً: “منسقي الإعلامي رتب لي موعد إعلامي آخر في نفس الوقت”. أعلم أن جدول أعماله مكتظ. اقتناص ساعة في هذه الأيام المحمومة أمر صعب. تطول الجلسة فيما بعد لأكثر من ساعتين مع تخلل مقاطعات خارجية. لا ينهي الشيخ اللقاء إلا حين أعلن انتهائي.
نعم سأبدأ سؤالاتي الآن. لكن أبدو مشدودة ومتحفظة. لا زلت مشوشة بشأن اعتباري الأول: عالم الدين والمرأة والاشتراطات. أبدأ سؤالي الأول بارتباك خفيف. يبدأ إجابته الأولى بهدوء تلقائي تتخلله ابتسامة. أشعر بارتياح أكثر. استرسل في السؤال. يسترسل في الحديث. يتلاشى تحفظي الأول. أتجاوزه سريعاً. أستعيد تلقائيتي. ندخل في السيرة بلا اشتراطات..
تسألوني عن فضولي الثاني ( السياسي الخافت، الهادئ، البارد)؟..
تلك هي السيرة..
من هو؟
أثناء دراسته الحوزوية في قم (1987-1992). يسأل عنه بعض طلاب العلم: من هو؟ فيأتي الجواب “هو ذاك الذي لا يتكلم، وإذا تكلم نطق إخفاتاً”. كان ذلك إثر مبادرة منه للاصلاح بين أصحاب فكر مختلف من تلاميذ الحوزة.
في الخامس عشر من يناير95، يجلس سلمان مع كل من الشيخ حمزة الديري والشيخ حيدر الستري على ظهر نفس الطائرة التي تحملهم مبعدين إلى لندن. فيقول له الديري: “والله ما توقعنا يطلع لك لسان!”.
لم يكن حتى هو نفسه يتوقع أن (يطلع) له يوماً (لسان)، وهو الشخصية الهادئة، المغمورة بطبيعتها، القليلة الكلام، الميالة للصمت. في أول خطبة له ألقاها في سنوات دراسته بقم، أغمي عليه من شدة الخجل.
من هو؟ سنعيد سؤال طلاب الحوزة ذاته، لكن سوف لن نعيد الاجابة ذاتها، بل سنتسع فيها، وقد نصل إليها.
هو علي سلمان أحمد (ولد 1965). نشأ في قرية البلاد القديم. تُعرف البلاد القديم بجهاتها. جهة شرق وجهة غرب وشمال وجنوب. يفصل التكوينات الرباعية حدائق وبساتين. تفصل حديقة (عين قصاري) بين شرق وجنوب. شرق هي الكتلة الأكبر في منطقة البلاد. هل يعكس التقسيم الرباعي تكوين نفسي لأهل المنطقة؟ أم هو تقسيم من أجل التمييز فقط؟ لا نعرف. لكن سلمان الذي نحن بصدد التعرف إليه، يسكن في بيت ينسب أحياناً لجهة الشرق وأحياناً لجهة الشمال.
لكل جهة مأتم رئيسي، وفريق كرة قدم خاص. تتنافس الفرق الرياضية فتفوز الجهة على الجهة أو تخسر الجهة أمام الجهة. مكانان فقط يلمَّان القرية بأكملها باختلاف جهاتها. المدرسة والصندوق الخيري. في مدرسة (الخميس) يحضر إبن القرية وتغيب جهته، “هناك تتلاشى جهاتنا وتذوب ونشعر بوحدة القرية”. صندوق البلاد القديم، لم يسلم من تهمة انحيازه لجهة دون جهة، وعليه أن يبقى مناضلاً ضد “التوجه”.
ممتنع الجهة
اختلفت الآراء على تحديد جهة بيت سلمان. بين من يقول شرق، وبين من يقول شمال. لكل تقسيمه وتخطيطه. وكأن البيت احتفى بهذا الاختلاف. فراح يمعن في تمويه جهته. مستأنساً بالشرق تارة وبالشمال تارة أخرى. هل سيلقي البيت (غير أحادي الجهة) شيئاً من ظلاله على تكوين سلمان الطفل؟ “علاقاتي مفتوحة على الجميع. ضياع جهة بيتنا أتاحت لي أن أكون في أكثر من جهة في آن واحد. أن ألعب الكرة في فريقين. أن أحرز نصرين. أن أكون جهتين معاً في آن واحد. أن أكون جهة (و) جهة، لا جهة (أو) جهة”.
تأخذنا الجهة (شرقية كانت أو شمالية) إلى بيت متواضع لا شية فيه. أشياؤه لا تختلف عن أشياء بيوت القرية الفقيرة. تحضر في هذا البيت شيتان أساسيتان. لا تغيبان عن نهار هذا البيت أو ليله. إنهما غذاء عقل وقلب وروح أفراد هذا البيت. الشيتان هما الدين والسياسة.
القرية تحمل طابعها المتدين. يُوقَظ سلمان كل ليلة لأداء الصلاة في المسجد القريب. بيت سلمان يحمل طابعه السياسي فضلاً عن الديني. أخوة سلمان الكبار لا يشغفهم مثل حب السياسة. السياسة هي المادة الأكثر توفراً في ذلك البيت. أخوه عبد الشهيد يحرص يومياً على إحضار الصحف ومتابعتها: صحيفة (الوطن) الكويتية وصحيفة (الخليج) الإماراتية بشكل رئيسي. صوت الإذاعة يصدح في بيت سلمان طوال اليوم: إذاعة مونتي كارلو وإذاعة الـBBC. “أن تركب سيارة أحدهم عصراً، يعني أن تسمع دقات ساعة (بغ بن) تشير إلى الرابعة مساءً. تشربت السياسة منذ سنوات طفولتي الأولى، فكانت جزءاً من تكويني الذي لم يغادرني”. بعد أحداث الثورة الإسلامية الإيرانية. صارت إذاعة طهران هي ما يصدح في فضاء البيت طول اليوم.
في ذلك البيت صبي، تتسم شخصيته بالهدوء حد البرود. محبوب من الجميع. ليست لديه خصومات كتلك التي تقع بين صبية الحي. تندر في حياته الشجارات الصبيانية. تحيط به لمّة من الأصدقاء. يحظى باحترام وتقدير هذه اللمّة.
علشاني..
لم ينتمِ سلمان إلى الكتلة الإيمانية في القرية، أو من تسمى وقتها جماعة (المطاوعية). بل انتمى إلى جماعة (الكرة). الكرة ممارسة يومية يعيشها سلمان حتى سنواته الجامعية. تختاره مجموعته ليكون رئيس فريقها. يتعلم سلمان (من هنا) معنى أن ترمى كرة القيادة في مرمى أحدهم، “القيادة دائماً حمل ثقيل وصعب. أن تكون قائداً لفريق يعني أن يكون مطلوب منك كل شيء. مطلوب منك أن لا تفقد حكمتك تحت أي ضغط. مطلوب أن لا تغفل الأبعاد النفسية والشخصية عند اللاعبين. مطلوب منك أن تحسن مواجهة من هم أكبر منك سناً. يأتيك من يسألك “لماذا فلان ولست أنا؟ لماذا يلعب فلان وأنا احتياط؟”. مطلوب منك تقديم جواب دبلوماسي مقنع. مطلوب منك الحفاظ على وحدة وتماسك الفريق دائماً. مطلوب منك أن تحقق نتائج جيدة دائماً. مطلوب منك أن تمتص النقد والتقريع وتتقبل اللوم والتوبيخ. هذا ما يعنيه أن تكون قائداً لفريق”.
ليس في القيادة إذن شيء من الراحة. ربما ساعد سلمان أن يكون ناجحاً في قيادة فريقه طبيعته: الهادئة، الباردة، المحبوبة، قليلة الانفعال، نادرة الشجار، الممتنعة عن الخصام، المحترمة من الجميع. ابتكر سلمان استراتيجيته الخاصة التي يلجأ إليها حين تعييه السبل، أو حين تتبلد أمامه خيارات إقناع الأطراف المتخاصمة أو المختلفة. “عندما تكون محبوباً في وسط ما، يخدمك كثيراً أن تلجأ إلى خيار (علشاني). سيكون خياراً مجدياً في كثير من الأحيان لتهدئة الأمور أو تسكينها”. جماعة الكرة أكسبت سلمان الصبي مهارة ستلزمه حتماً حين يصبح شاباً يقود أكبر جمعية سياسية في البحرين مستقبلاً.
كتلة الكرة
كانت مجموعة الكرة كتلة اجتماعية واحدة. عددها حوالي 20 من أبناء القرية. تنظر القرية إليها باحترام وتقدير، فهي مجموعة خيرة، لا تعادي أحد، تحب خدمة أهل القرية “حاضرون لأي فزعة، لا يفوتنا أي بناء جديد في القرية إلا ونكون كتلة واحدة تشارك في الصب وبناء الأساسات”. تحضر جماعة الكرة المأتم. تواظب على المشاركة في العزاء، لكنها تصلي في المسجد فرادى غالباً “لم نكن من مجموعة الشباب المتدين الذي يحضر الدرس الديني ويواظب على صلاة الجماعة”.
تنظم المجموعة رحلاتها باستمرار وتخرج في باص النادي. مقر النادي هو المكان الذي تجتمع فيه جماعة الكرة. هناك يسهر الصبية ويتسامرون “موضوعاتنا لا تتعدى أخبار الكرة ومن غلب ومن خسر”. يفضل سلمان ورفقته اللعب في ملعب قريب من عين عذاري. “ننتهي من اللعب، ثم نصلي في مسجد قريب، ثم نختم بالاستحمام في العين”.
في مدرسة الخميس، في العام 1972، حيث إضرابات العمال، يدخل غرفة صف سلمان أحد الطلاب (الكبير سناً وحجماً). يضرب بيديه على الطاولة: لا نريد أن ندرس. يخرج الجميع. يسيرون مع المظاهرة المتجهة ناحية مدرسة البنات. وهناك تفرقهم قوات الأمن. سلمان ورفقته لا يعنيهم من الأمر شيئاً. كل همهم أن تتاح لهم الفرصة للعب الكرة والسباحة في عين عذاري.
في عام 1982 يلتحق سلمان بجامعة الرياض متخصصاً في علم الرياضيات. في الرياض يحتفظ بحضوره الهادئ، البارد، المحبوب، قليل الانفعال، نادر الشجار، الممتنع عن الخصام، المحترم من الجميع. ينظم سلمان الرحلات لشباب السكن الجامعي في الرياض. يدير فرق لعب الكرة. فريق لكل تخصص جامعي. تستمر وتيرة حياته (الكروية) في جلها حتى العام 1985. حيث يشهد هذا التاريخ التغيير الكبير في حياته.
سؤال الانقياد
اليوم: الحادي عشر من محرم. المنطقة: قرية الدراز. الحدث: منع خروج عزاء الحادي عشر من المحرم. القرية محاصرة بقوات الأمن.
في باص النادي تخرج جماعة الكرة متجهة ناحية الدراز للمشاركة في العزاء. للمرة الأولى يشارك سلمان في مسيرة عزاء خارج قريته الصغيرة. يُمنع العزاء. يخرج العزاء رغم المنع. تستخدم قوات الأمن الغازات المسيلة للدموع. تعتقل بعض المشاركين. يُستدعى المسؤول عن تنظيم العزاء (الحاج حسن جهرمي). تلتهب الأحداث. يدخل وقت الصلاة. يعلن عن خطاب للشيخ عيسى قاسم. للمرة الأولى يقف سلمان مؤدياً صلاة الجماعة خارج قريته. مستمعاً إلى قاسم وهو يتحدث عن أهداف الإنسان المؤمن ودوره في الحياة. يهز الخطاب قلب سلمان. سيقود ذلك الخطاب تحولاً محورياً في حياته.
يعود الصبي إلى قريته مساءً. رأسه يفيض من الأسئلة. “الإنسان يجب أن يكون أكثر قرباً للرب. ما الذي يرضي الرب؟ ما الذي يريده الرب؟ كيف أكون أكثر قرباً للرب؟”.
تحاصر سلمان الأسئلة، فيحصر إجابتها. هذه المرة لم تحتمل الإجابة عند سلمان أن تكون جهتين: جهة (و) جهة، بل جهة واحدة فقط: جهة (أو) جهة. اختار سلمان الحوزة الدينية. وترك الدراسة الجامعية التي لم يفصله عن الانتهاء منها غير عام دراسي واحد.
اختار سلمان جهة الانقياد. الانقياد لسؤال “ما الذي يريده الرب؟”.
أليس “الدين الانقياد” كما يقول ابن عربي؟ الانقياد فعل إنساني. ينقاد الإنسان ليصل إلى ما يريده الرب، ليصل إلى الرب. ينقاد الإنسان بفعله لا بفعل غيره. الفاعل هنا هو الإنسان. الإنسان ينشأ انقياده بنفسه، ينشأ دينه بنفسه، يصل لربه بنفسه. لكن كيف فهم سلمان هذا السؤال، وكيف انقاد له؟
” لكي أعرف ماذا يريد الله مني قررت أن أتجه للدراسة التي تدلني إلى ما يريده الله. قررت أن ارتبط بمن يعرفون ما يريده الله من العلماء والفقهاء”. راح سلمان يبحث عن دراسة تقوده إلى الله، ورجال علم يقودونه إلى الله. بحث سلمان عن انقياد يوجِّه انقياده. انقياد خارج ذاته. بحث عن جهة تقصِّر المسافة بين فعل العبد وإرادة الرب. فكانت جهته الحوزة.
خندق سلمان
نحن الآن في الحوزة العلمية في قم. غرفته لا تزال يُسمع فيها صوت إذاعة مونتي كارلو والBBC . هو هو سلمان بطبيعته الهادئة، الباردة، قليلة الانفعال، قليلة الكلام، الممتنعة عن الخصام. هدوءه في الحوزة جعل منه شخصية مغمورة. لكن ثمة ما يجعل سلمان ينطق. إنه الاختلاف حد الخلاف. هنا يحضر سؤال الانقياد “ما الذي يريده الله؟”. حتماً الرب يحب الاختلاف لكنه لا يجب الخلاف. يساعد سلمان على رفض ذلك مزاجه العام “ليس لدي مزاج تقسيمي للناس. هذا خط كذا وذاك خط كذا. يؤلمني أن تصل الخلافات الفكرية بين طلبة العلوم الدينية حد أن يمتنع البعض عن زيارة البعض الآخر. كنت أسكن في المدرسة وأخرج لرؤية المنشقين عن المدرسة. دخلت في فريق مصالحة بين الأطراف المختلفة. سأل عني البعض. قيل لهم: هو ذاك الذي لا يتكلم، وإذا تكلم نطق إخفاتاً”.
ربما هذا المزاج الميال للانسجام والبعيد عن الاختلاف (في الحوزة) هو عينه ما عناه (اليوم) حين قال في افتتاح خيمة منيرة فخرو مؤخراً “أنا ومنيرة في خندق واحد”. يهم سلمان الخندق الوطني، ومن أجل هذا الخندق يتحالف ويجتمع ويتحاور ويتعاطى ويتشارك مع الآخر. تقول منيرة “عرفتُ سلمان في 94. أول عبارة سمعتها منه هي: يشغل تفكيري الوحدة الوطنية. كيف يمكن أن نعيد الوحدة الوطنية بين الطائفتين مثلما حدث في العام 1956؟”.
لعل مزاج سلمان غير التقسيمي (في الحوزة) أيضاً، هو نفسه ما يجعله (اليوم أيضاً وأيضاً) حذراً في الرد على العنف الموجه له من قبل بعض مخالفيه وخصومه السياسيين “ليست لدي طبيعة الرد على العنف. أمتلك محاكمة المواقف لكن لا يتحرك في داخلي شيء من الكره. أؤمن أنه في أقصى درجات السخونة يجب أن يَحكُم العقل”.
مخفت يجهر
نحن الآن في العام 1992. سلمان عائد للتو من قم بعد أن سُمح له بالعودة. لن تطول إقامته في البحرين وسيعود ليكمل دراسته، أو هكذا كان يظن. لكن تسير الأحداث بوتيرة مختلفة. يقرر الشيخ عيسى قاسم السفر إلى قم. يتم اختيار علي سلمان ليؤم المصلين في مسجد الخواجة مكانه. كذلك جامع الدراز. تختاره مجموعة من العاملين في المنامة والعائدين من قم.
المسافة بين قاسم وسلمان كبيرة. السن والخطابة والمنزلة العلمية الدينية. سلمان المخفت لم يكن مهيئاً ليجهر بصوته بعد “لم أكن مستعداً لذلك الجو. لست خطيباً ولا ميالاً للخطابة. في أول خطبة ألقيتها في قم أغمي علي. مزاجي يميل إلى مساحات الظل. أميل إلى الممارسات الروحية والأخلاقية. تلك هي مساحتي التي أجد نفسي فيها بشكل فطري”.
ما الذي يجعل سلمان يقبل هذا الدور غير الملائم لطبيعته الخفيتة؟ ليس سوى سؤال الانقياد السابق: ما الذي يرضي الله؟ وحده هذا السؤال يمتلك القوة على إحداث التغيير الفوري في حياة سلمان، “خشيت خذلان سؤال الواجب. أن يكون اعتذاري هروب مما يريده الله لما أريده أنا. فقبلت”. سيقود سلمان إذن جماهير الصلاة استجابة لصوت السؤال الذي يقوده.
منذ ذلك التاريخ وسلمان المُخفت يجهر بصوته في كل صلاة، في كل خطبة. وفق تركيبته البيئية والبيتية، لم يكن صعباً على سلمان أن يستحضر البعد السياسي في خطبه. تتدافع الأحداث السياسية فيما بعد. تتأزم. تتعنف. تتعقد. تصير مُرة. يفرض الواقع نفسه. يجهر الصوت المخفت أكثر. إنه صوت الواجب. إنه صوت “ما يريده الله”. يُبعد الصوت إلى خارج البحرين. يجهر من لندن. ثم يعود مع بوادر انفراج الأزمة..
الجهر عند سلمان صوت لا يرتفع. لا يزال صاحب الصوت الذي (جهر بعد اخفات) محتفظاً بهدوئه وبرودته. لا يزال هو ذلك (الطفل، الصبي، الشاب، طالب العلم، شيخ الدين، قائد الكتلة) المحبوب. لا يزال يحظى بتقدير واحترام الآخرين على نحو يحصل معه أعلى عدد من أصوات الناخبين. لا يزال يبتكر نموذجه السياسي الخاص والمتفرد (البارد، الهادئ). ولا أزال أعجب من الحرارة التي تلتقي مع البرودة فلا تبغيان.
[1] منطق ابن خلدون، علي الوردي، ص 35