الـ”نبيل” المنتصر
«عزيزاتي.. أعزائي.. أحببت مشاركتكم تشخيص مرضي الذي ظهرت نتائجه في الأربع وعشرين ساعة الماضية، تبين أني مصاب بسرطان الغدد اللمفاوية، وأنا بصدد عمل إجراءات للتأكد من التشخيص، ووضع خطة للعلاج في أحد المراكز المتخصصة في مثل هذه السراطانات. قررت وعقدت العزم على محاربة هذا المرض الخبيث وسأنتصر عليه».
أُرسلت هذه الرسالة على مجموعة دروب الحوارية بتاريخ 19 يناير .2010
بعد أربعة أيام فقط، يكتب الطبيب نبيل تمّام على صدر صفحته على موقع الـ «فيس بوك»:
«في 22 يناير/ كانون الثاني 2009 استقبلني الناس في المطار بعد رجوعي من غزة التي تقاوم السرطان الصهيوني، وانتصرت غزة، وفي 22 يناير/ كانون الثاني هذا العام، ودّعني الناس لذهابي لمقاومة السرطان المرضي، وسأنتصر عليه».
كان ذلك صباح اليوم التالي لمغادرته البحرين نحو أحد المراكز المتخصصة في أميركا للتأكد من التشخيص وبدء جلسات العلاج.
في يوم واحد من ظهور نتيجته التي فاجأت الجميع بمن فيهم هو، يقرِّر تمّام إعلان مرضه الذي أُخبر أنه في مرحلته الثالثة، وبالقدر نفسه من سرعة الإعلان، يقرِّر أنه سينتصر. قراران هما أصعب ما يواجه من يمر بهذه التجربة، تلك التي تستهلك الكثير من انهيار صاحبها، قبل أن يستوعبها، وقبل أن يتمالك نفسه تجاهها. لكن تمّام يقرِّر أن يبدأ بالأصعب، أن يسبق المرض بإعلان الحرب عليه، أن يبادره بحرب نفسية تتحدى استعلاءه الذي طالما هزم أذهان المصابين قبل أجسادهم. يعرف تمّام جيداً أن الانتصار ليس خارجك بل فيك، وكذلك الهزيمة. لهذا سيعلن، لا للناس فقط، بل للمرض أولاً، أنه هو الأقوى وأنه هو من سينتصر، إعلان المرض قبل بدء تلقي العلاج نصف الهزيمة، وقرار الانتصار هو النصف الآخر للهزيمة.
قبل حوالي العام، كان نبيل تمّام ضيفنا في سوق الجنة [1]، يحدثنا عن مشاركته ضمن لجنة علاج جرحى غزة، تضم أطباء من كل العالم، يروي لنا رحلته القاسية والمؤلمة مع زميله علي العكري، لتوصيل المعونات المالية إلى غزة المحاصرة بسرطان الغزو الصهيوني، والاطلاع على الأوضاع والحاجات الماسة من أجهزة وأدوية ومؤن. لم يعد الطبيبان البحرينيان للوطن إلا بعد أن توقف العدوان على جسد غزة، ذلك الجسد الذي بقى منتصراً على الموت، رغم كل ما جرّعه له سرطان العدوان من نسف مدمّر شبه كامل. في مطار العودة، كان جمهور غزة البحريني، يستقبلهما بهتافات العزّة، وبأكاليل وردها المحمولة بالفخر.
قبل فترة قصيرة من تاريخ إعلان المرض وجوده غير المحمود داخل جسد تمّام، كان هو هناك مرة أخرى، عند أطراف غزة، يشارك حملة شعبية تناهض إقامة جدار العزل الفولاذي، ومن هناك، كان الـ«فيس بوك» وسيلته ليصلنا معه بكل ما يحدث، ساعة بساعة، وحدثاً بحدث، ثم ليبقى، حتى بعد مغادرته غزة، ينقل لنا ما لا يغادره من غزّة.
سيبقى تمّام مستمراً في بثّه المقاوم، لكن هذه المرة لا عن سرطان غزة، بل عن سرطان مرضه. سيبث أخبار علاجه بالقوة نفسها وبالمقاومة نفسها وبالشجاعة نفسها، فكلا السرطانين واحد، لا فرق بين ما يتغلغل في جسد وطن وما يتغلغل في جسد إنسان، طالما أنه وجود دخيل وغير مشروع، ستبقى مقاومته عزّة، ومحاربته نضال، والاستسلام له خضوع، والانهزام أمامه موت.
كل ما يباغتك/ يقتحمك/ ينتشر فيك، لينشئ كيانه على حساب كيانك الخاص، ليحيا على موتك، هو سرطان يجب استئصاله بلا ضعف وبلا خوف وبلا تردد. الانتصار هنا لن يصبح خياراً بل قرار، وحين تعلن قرار الانتصار، فإنك ستُباغِت بدلاً من أن تُباغَت.
يعود تمّام إلى البحرين في 12 فبراير/ شباط لمواصلة علاجه الذي بدأه في أميركا. أذهب لزيارته وزوجته في بيتهما في ”مقابة”. هي المرة الأولى التي أقابله وجهاً لوجه خارج جسد العالم الافتراضي. سأجد رجلاً مفعماً بحركته الرشيقة ومرحه وعفويته فيما يشبه السخرية من رهب المرض، سوف يداعب الجميع بروحه المرحة بعفوية تلقائية، سيقول للنساء اللاتي يأتين للسلام عليه: اعذرنني لأنني ممنوع من التقبيل. سيضحك الجميع. سيمازح زوجته جميلة عندما كان يتلقى العلاج هناك: تعالي لتري جسدي مشعاً كلّه. وأنت قبل أن تبادره بمواساتك الركيكة المرتبكة، سيبادرك هو بشحنك بتجارب من سبقوه إلى الانتصار، سيروي لك عن الاتصالات التي أتته ممن لا يعرف، من أميركا وأماكن أخرى حول العالم، تروي له تجاربها الناجحة مع المرض، عن المراسلات الالكترونية، وعن الكثيرين الذين تعرّف بهم في صفحة الـ«فيس بوك» في تلك الفترة القصيرة من حياته. ستجد أنك أنت من يستمد منه طاقة الحياة، أنك أنت من في حاجة لإشعاعاته تداخل جسدك المعتم، أنك أنت من في حاجة أن تتعلّم كيف ينتصر الإنسان ابتداءً. أن ينتصر قبل أن يعرف إلى أين تسير به المعركة الشرسة التي يدّخرها له الزمن، وقبل أن يعطيه خارجه «علاجه» شيئاً من علامات الانتصار..
أيها النبيل تمام..
لا شك أنك أنت المنتصر..
لمشاهدة المقال والتلعيقات http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=12684