» مقالات » ثم هربتُ من طوباويات المثقف
مقالات

ثم هربتُ من طوباويات المثقف

20 مايو، 2013 3068

خارج التجربة لا شيء سوى التكرار. التجربة التي لا تعيشها لا تستطيع أن ترويها. نحن ممتلئون بتجاربنا التي نعيشها، والكاتب ممتلئ بما يرويه من هذه التجارب، وما يكتشفه من ذاته المتعثرة بين تفاصيلها. كل رواية للتجربة اكتشاف آخر للذات.

كان كتابي اليتيم “كالتي هربت بعينيها” أول علاقةٍ بيني وبين الكتابة عن التجربة الذاتية ومن خلالها. نُشرت على شكل حلقات في صحيفة «الوقت» في 2006، قبل أن تُجمع بين ضفتي كتاب، وتصدر في الذكرى السنوية الأولى لانطلاقة الصحيفة مع كتاب آخر هو “بوابات العبور”؛ ملف آخر عمل عليه مجموعة من الصحافيين.

وبقدر ما كان مرهقاً ومنهكاً فكّ شيفرات تشكيل الذات، فقد كان ممتعاً ولذيذاً إعادة اكتشافها. كان ذلك أول ولوج واعٍ لداخل ذاتي الساكنة في عمق بحيرة تجربتها. وهو أيضاً، أول خروج حقيقي لها من غلاف التجربة المقدسة. عشت أثناء الكتابة وبعدها، لذّة معرفية وكشف خاصين، كشفٌ على طريقة من عرف نفسه فقد عرف كل شيء. الكتابة جعلتني أرى بعينين اثنتين وأطير بجناحين، لقد حررتني كما لم يحررني قرار الهروب الذي اتخذته في 2004.

هذه التجربة الكتابية نقلتني لأفق آخر في فهم حاضنتي الثقافية والحواضن الأخرى وعلاقتي بها، وبطبيعة الحال نقلتني لأفق آخر في الكتابة نفسها. بدأت التجارب الإنسانية تشكّل غواية خاصاً بالنسبة لي. وبحكم تحولي الفكري، فقد صار هذا النوع من التجارب يشكل موضع شغفي الأول، فتحني فيما بعد على كل أشكال التجربة الإنسانية (عقيدية، دينية، فكرية، ثقافية، اجتماعية، سياسية، مهنية… الخ).

بهذا الأفق أيضاً، رحنا في صحيفة الوقت؛ الصديقان علي الديري وحسين المحروس وأنا، نبلور فكرة ملحق خاص أسميناه «بروفايل». كان قائماً على النبش في عمق التجارب الإنسانية والدخول إلى سيرة المجتمع من خلال سيرة الناس الذين يعيشون فيه. وضعنا له تعريفاً: البروفايل هو الصورة الجانبية المواربة للمجتمع في الشخص، أو الصورة الجانبية المتوارية للشخص في المجتمع.

كانت لنا مناكفاتنا الفكرية التي تستفز الموارب والمتواري في المجتمع. طرحنا المفاهيم والأفكار التي كانت عشقنا، من خلال الناس والأمكنة والأحداث. بروفايل يقصد الشقوق ليوسعها وليفتحها على واقعها كما هو.

في البروفايل الذي كتبته عن الحوزات النسائية في البحرين والذي أطلقت عليه عنوان “آية السواد”، قدمت رؤية نقدية من خلال عرض تجارب بعض الحوزويات والحوار مع نخبة منهن. كانت نتيجته أن جوبهت باعتصام حوزوي نسائي احتجاجي عند مدخل الصحيفة في اليوم التالي يطالبني والصحيفة بتقديم اعتذار. اعترف: كنت سعيدة جداً بذلك. شعرت أن ما حرصت على ايصاله بتأن وحساسية شديدين قد وصل. تم تسوية الأمر بشكل ودي فيما بعد. عرفت من خلال بعض التسريبات لاحقاً أن ثمة جدل نقدي (موارب) أثير خلف جدران إحدى الحوزات النسائية.

بعدها انتقلنا إلى بلورة صفحة خاصة أخرى تحت عنوان «سوق الجنّة»، كانت هي الأخرى سوقاً عامرة بالتجارب الثقافية والفكرية والإنسانية. كنت أتعلّم من كل تجربة نكتبها عن ضيوف سوق جنتنا الذين كنّا نختارهم بعناية التجربة، لا بقوّة الاسم. وجدتني أتكاثر بتجارب الآخرين وكأنني جزء من كل منها.

مثلها كان عملي على كتابة تجارب البحرينيين في “ثورة ظفار”، الملف الذي فتحني على حقبة سياسية بكاملها وتجربة ملتهبة عاشها الخليجيون في الصراع من أجل الحرية. تجربةٌ تجرّأت على الحلم، فتجرّعت مرارة الحرب. لاقى هذا الملف ردود أفعال كثيرة، خاصة بين الظفاريين الذين أسعدهم ملامسة شق مسكوت عنه في تاريخهم فتواصلوا معي محفّزين. بعد 3 سنوات زرت ظفار بدعوة من بعضهم لأعاينها كما هي الآن، خصصت لزيارتي ملف آخر نشر حينها.

صرت أوقن أن كل تجربة فراشة. وأن لكل تجربة أثر يشبه تماماً أثر الفراشة. الفراشة التي تضرب بجناحها في طرف من الأرض لتحدث زلزالاً في الطرف الآخر، تشبه التجربة التي يعيشها الإنسان اليوم، لتضرب بجناحها في حياته كلّها؛ ترسم شكل حياته القادمة وتحدد رؤيته لذاته والآخرين وعلاقته بهم.

في نهاية 2010 كانت ثمة كتب جاهزة على طاولتي لأبدأ بتنفيذها للنشر: “ظفار الحلم”، “وطنٌ من ماء”، “أن أتنفس”. اليوم لا زالت هذه الكتب تجلس على الطاولة ذاتها. لم تُنشر.

إنه العام 2011. أكبر من رفرفة فراشة. عاصفة كادت تكسر أجنحتي. لا يشبه الكتابة من فوق الطاولة المرتبة، ولا يشبه كتابة متأنية لتجربة قد تمّت. يشبه تجربة فراشة في زالزال. أقول ذلك بالمعنى الحقيقي لا بالمعنى المجازي. ولست بحاجة لتوضيح المعنى الحقيقي الذي ما زلنا نعيشه جميعاً في هذه التجربة.

في دوار اللؤلؤة وجدت فضاء وطنياً مشتركاً، وحلماً متواضعاً. رحت أكتب من خلال هذا الفضاء. أكتب فيه تجارب الناس وهم يتطلعون لصناعة حريتهم. ثم تجاربهم وهم يدفعون ثمن حريتهم. تجاربهم وهم يتحدون مغتالي حريتهم. ما زلت في هذه التجربة ولا أظنني أخرج منها حتى لحظة كتابتي هذه الشهادة. ما لا يقال هنا، وفي هذا الوقت، يفوق عشرات المرات ما لم يكن يقال في تجربة الفراشة المقدسة. أنا هنا أمام كتابة الصراع. تجربة الانسان في الصراع من أجل الاعتراف.

أفهم الكتابة على أنها تجربة اعتراف. ليس الاعتراف هنا بمعنى البوح واثبات الذات فقط، إنما هو العدل في الحياة. كيف يمكن أن أكتب تجارب البحرينيين وهم يصارعون من أجل هذا العدل. كيف أتخلص من ادعاءات المثقف الذي يضع شروطه المسبّقة في الكتابة عن الانسان والانتصار له، تلك التي تشبه شروط السياسيين قبل دخول أي حوار؛ غالباً تريد أن تفرض على الآخر أن يتماثل معهم قبل أن يتحاور. ولأقل بصورة أكثر مباشرة، كيف أتخلّص من شروط المثقف التي تقبل الكتابة عن الناس الذين يتماثلون مع أفكاره في الحرية والموقف من الدين والتماثل في الاهتمامات الثقافية. إنها شروط المثقفين الذين يكتبون عن أنفسهم فقط. أو يكتبون عن الإنسان الذي يحلمون به، لا الإنسان الذي يعيشون معه.

العام 2004 كان محطتي الأولى للخروج من طوباوياتي المقدسة ومن جماعتي العقيدية. خرجت من قعر الغلاف إلى فضاء المفاهيم الفلسفية والأفكار الجامحة. صرت صاخبة بها وبكتب المثقف المنمّقة الأنيقة وهو يستنهض الإنسان ويؤججه نحو الحرية والعدالة والحب والسلام والتعدد والتعايش المشترك واحترام الآخر والاعتراف به. كنت منبهرة بهذه الخطابات ومتلبسة بها، حتى أتى عام 2011 الذي شهدت فيه انهيار كل شيء، انهيار المثقف قبل انهيار المفاهيم الأنيقة التي يصدّرها إلينا من فوق طاولته المرتبة. لم تعد هناك طاولة. الزلازل تطاولها جميعها.

لقد خرجت من طوباويات المثقف والغلاف الذي يحيط به نفسه ليكون فوق الواقع، بدلاً من أن يكون جزءاً منه، لم تعد تغويني المفاهيم والأفكار التي تطل من البروج العاجية. أريد أن أعيشها كما ألمسها على أرض الواقع. فرادة الكاتب تأتي من خلال قدرته على كتابة هذا الواقع ونقله بعدالة إنسانية غير مشروطة. لا يمكن لمثقف أن يضع شروطه لمن يتعاطف معهم إنسانياً، ليحدد من يستحق العدالة ومن لا زال قاصراً أمامها. الحرية والعدالة أمور لا تقبل التقسيم، والانسانية لا عرق لها ولا دين. لا يمكن أن يكون التطهير العرقي أو الطائفي جريمة في مكان، وضرورة لازمة في مكان آخر.

دور المثقف ليس شيئاً آخر غير التحريض. التحريض على التنوير والحرية، على الخروج من قصور عبوديتنا إلى اكتمال حرياتنا. والكتابة التي لا تساعدنا على هذا الخروج هي إما كتابة خائبة أو خائفة أو…. خائنة.

نعم، لقد شهدت انهيار أوهامي الثقافية الحالمة واحدة وراء الأخرى. شيء واحد فقط بقى ثابتاً لدي حتى الآن: “كل تجربة فراشة”. بل صرت أذهب إلى أن تجربة كل منا هي حقيقته الوحيدة في هذه الحياة. لا حقيقة خارج التجربة. كل ما يقع خارجها محض نظرية ستكشف حقيقتها عندما يعتريها زلزال التجربة. لهذا أفضل ما يستطيع الانسان تقديمه للآخرين هو تجربته كما يعيشها في الواقع. وحين تنطق التجربة يصمت كل شيء آخر. والابداع ليس شيئاً آخر غير قول هذه الـ(حقيقة) بأشكال متعددة.

بت أزداد يقيناً أن لا (حقيقة) في الكتب النظرية. الحقيقة بيتها الواقع وقبرها أيضاً. المصطلحات الفضفاضة لا تعني شيئاً ما لم تقترن بحقيقة ما. تصير قوالب فارغة غير ذات معنى. ليس أسهل من التحليق مع الأفكار حين تكون في برجها المدلل، أو حين تتحدث عن تجارب لا علاقة لنا بها. بطلاقة مسهبة يتحدث المثقف عن صراع شعوب أخرى مع الحرية وينتصر لها، لكنه يغمغم الكلام حين يكون مضطراً إلى الحديث عن صراع شعبه مع نيل الحرية، هذا إن لم يلق باللائمة على شعبه، أو يتهمه ويبرئ السلطة، وفي أحسن أحواله يتهمهما معاً، فثمة كلفة تنتظر قول الحقيقة. أنت هنا أمام أن تكون ذاتك أو تكون وهماً. الواقع وحده يختبر أوهامك التي ترسلها معلبة إلى الناس في أغلفة جميلة؛ الكتب.

هل هذا يعني أن يكون المثقف مناضلاً سياسياً؟ لا، أن يكون مقاوماً.

يقول المثقف المقاوم ادوارد سعيد “يجب دائما على المرء أن يبدأ مقاومته من وطنه ضد السلطة كمواطن يمكنه التأثير”. المقاومة هي أن تكون ضميراً إنسانياً في وطنك، أن يكون ما يمارس في وطنك ورشة كتابة، كما هي ورشة كتابة تزفيتان تودروف وإدوار سعيد ونعوم تشومسكي، وعزيز نسين، وبابلونيرودا. أن تكتب تجربة وطنك مع الإنسان لتُكمل المكتبة العالمية حول آلام البشر وتجاربهم في النضال من أجل الاعتراف والحرية. فـ”المثقف هو من حمل الحقيقة في مواجهة القوة” كما يقول نعوم تشومسكي

منذ 2011 أصبحت الكتابة عندي مخنوقة. لا أستطيع أن أهرب إلى الخيال وأنا أعيش واقعاً يفوق لعبات الخيال بدرجات. عندما يكون الواقع فانتازياً بهذا القدر يهترئ الخيال. يصير أقل إدهاشاً. تجد نفسك مجروراً نحو سرد الواقع فقط وأنت ممتلئ بدهشة لا لذة فيها. حتى الآن لست أراني قادرة على القفز فوق جرح واقعي. أنا محصورة به. أسيرة ما يفوق الخيال. لا أستطع أن أهرب بعيني.. لكنني أرى..

* كتبت هذه الشهادة لـ#وجود للثقافة والابداع ضمن موسم «شهادات ابداعية في التجارب البحرينية». تم تقديمها يوم الثلاثاء 12 مايو 2015

 

قيم المنشور!

باسمة القصاب

باسمة القصاب

نصف جناح ونصف جسد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  • ×
    تسجيل الدخول / العضوية