» كتب » رواية ابن سينا والشرط الإنساني
كتب

رواية ابن سينا والشرط الإنساني

3 يونيو، 2008 30101

« تفحص الأوراق التي بين يديك، تملّ منها، والمسها، وشم رائحتها، وانظر كم هي ضاجة بالحركة، وكم هي مُحرقة أو باردة، وفقاً لما ضمنها صاحبها من أفكار، ولعلك إذا فعلت تنتبه إلى الحياة بين أصابعك». المقطع يصف حال الفيلسوف ابن سينا، وهو غارق في دهشة ما عثر عليه من كتابات ومخطوطات في مكتبة السامانيين الملكية.
وبالنسبة لي، الكتاب الذي لا يجعلني أنتبه إلى الحياة بين أصابعي، ولا أضج بالحركة الموجودة فيه، ولا أحترق بأفكاره، ولا يصدم برودتي، هو كتاب لا أعول عليه. استطيع أن أقول عن رواية «ابن سينا.. أو الطريق إلى أصفهان» للكاتب الفونسي جيلبرت سينويه، انها من ذلك النوع الذي ملأني بالحركة والتاريخ والسيرة والمعرفة معاً، بالنار بالنور في الوقت نفسه، وبتعقد الحالة الإنسانية، وأنها توفرت على الصدمة أو الدهشة التي تستحق القراءة والتوقف طويلاً، ربما..

 

فيم الصدمة؟
قبل أن أقرأ هذه الرواية، كانت النعوت التي أعرف من خلالها ابن سينا تنحصر في كونه فيلسوفاً إسلامياً أو طبيباً مسلماً أو عالماً فقيهاً أو شيخاً رئيساً .. الخ. تنمط صورة ابن سينا في مخيلتي. ربما لم أضعه في صورة جاهزة قبلاً، بل لم تكن معرفتي به تتجاوز تلك التعريفات العامة، لكن المؤكد أن الإطار الذي يمكن لعقلي أن يضعه فيه لن يتجاوز التالي: عمامة كبيرة على الرأس مع جلباب، لحية كثيفة، رجل شديد الجدة والصرامة، قليل الكلام والابتسام، منصرف كلياً إلى العبادة والعلم، زاهد في ملذات الجسد بكل أنواعها، عاكف على النهل من العلم وحده، محافظ على طقوس العبادة وملتزم بالأحكام والشرائع والنصوص الدينية.
الرواية كسرت هذا الإطار بالكامل، أو لأقل أنها حطمته تماماً إلى غير رجعة. صاغت نموذج ابن سينا في صورة مختلفة لا يمكن أن أضعها داخل واحد من الإطارات المشهورة أو المعترف بها، وقدمته كحالة فردية خاصة منفلتة خارج الشكل النمطي للشخصية الاسلامية كما يقدمها التراث. بدا ابن سينا غير ملتزم إلا بولعه الشديد بالمعرفة والعلم. وبعيداً عما قد يستثيره ذلك لدى البعض من تقديرات أخلاقية، وبعيداً عما هو مقبول أو غير مقبول ثقافياً ودينياً، فإني اعتقد أن هذه الصدمة كانت هي ما أعطت لشخصية ابن سينا في الرواية دهشتها الخاصة.
نعم، كان ابن سينا منكباً على العلم كما لم ينكب على شيء آخر، بدأ رحلة تلقي العلوم وحفظ القرآن وعمره لم يتجاوز العاشرة، ثم تلقى علوم الفقه والأدب والفلسفة والطب، وترك ما يقارب ال 200 مؤلف في الفلسفة والطب. يصر على أنه مسلم شيعي ولا يقبل أن يُنسب إلى غير ذلك، لكنه رغم ذلك لم يكن منكباً على العبادات والطقوس. يمارس عبادته بطريقته الخاصة. يقول «العلم والعمل في مقام الصلاة، انهما يمهّدان لنا طريق الجنة وينجياننا من متاهات الخطيئة». له وسيلته الخاصة في التقرب إلى الله، وسيلة العقل والعلم كما يقول: «دع الآخرين يقتربون من الله بكل وسائل التقوى، واقترب أنت منه بكل وسائل العقل، وستسبق الجميع». موقن أن وسيلته «العقل» ستمكنه من الفوز بسباق القُرب من الله بكل جدارة.
كلما تحيّر في مسألة أو ضاق بأمر تردد إلى بيت الله، وفي مهابة صمت الجامع صلّى وابتهل، حتى يفتح له المُغلق ويسهل المتعسر: «الله هو المرآة». يقول في سيرته التي خطها بنفسه. «إنه تجلّي الحقيقة الذي لا يفوقه تجلّ». ستدهشنا هذه العلاقة المتحررة من صيغ التقوى المعروفة، المأخوذة بالثقة والفتح والكشف.
سيغربلنا ابن سينا خلال الرواية مع تناقضاته والتباساته في تفاصيل هذه العلاقة. سنجده حين يستعصي عليه مشكل علمي لا ينفك، ينقض على إبريق الخمر الذي يرى أنه يساعد على التركيز، وإذا لم يسعفه، سوف لن يلبث أن يفترش سجادة الصلاة يسأل الله حل معضلته الفلسفية أو العلمية. إنها سبيله إلى النجاة منذ القديم. هل تعجبتم؟ نعم من هذا إلى ذاك مرة واحدة!! هكذا يروي عن نفسه.
لا يخشَ ابن سينا الجهر بشربه الخمر، ولم يؤثر ذلك على جديته أو مكانته العلمية بين علماء عصره، يروي سيرته: كنت أرجع بالليل إلى داري، واشتغل بالكتابة والقراءة، فمهما غلبني النوم، أو شعرتُ بضَعف، عدلتُ إلى شُربِ قَدح من الشراب، ريثما تعود إلي قوّتي، ثم أرجع إلى القراءة، ومهما غلبني أدنى نوم أحلمُ بتلك المسائل بأعيانها.
كذلك لم يكن ابن سينا، وهو المهموم بالعلم والفلسفة والطب، مغادراً جسده، بل كان مستجيباً لرغباته وشهواته الجسدية فيما يتعلق بعلاقته بالمرأة. ستطالعنا الرواية به يقصد ماخوراً في طريق عام، ويقيم علاقة عابرة مع إحدى المومسات. سيسبب ذلك صدمة تلميذه واستنكافه فعل شيخه: «سامحك الله ايها الرئيس، أنت سيد طالبي العلم لا شك في ذلك، لكنك أيضاً سيد طالبي اللذة في المعمور كله»، «اسمع اليك أحياناً فلا أفهمك أيها الشيخ، ويشهد الله أني لا اشعر بذلك حين تحدثني في أمور العلم»، وسيجيبه ابن سينا بغير متكلف، «لولا الخطيئة لم تكن المغفرة»، لم يكن ابن سينا يرى في ذلك ذنباً كبيراً، بل كان يراه خطيئة «للخطيئة مذاق الصلاة أحياناً.
لهذا لم أستطع تصنيف ابن سينا، لا بتصنيفاتنا العصرية المعروفة ولا بتلك التراثية المسكوكة، ولأننا اعتدنا ضمن ثقافتنا الدارجة أن نعتمد تصنيف الناس كمدخل أولي لفهمهم والتعامل معهم، فقد حاولت عبثاً أن أعثر لابن سينا على إطار يصنفه ضمن نموذج، لكن دون فائدة.
بعد انتهائي من قراءة الرواية، وقعت على مقولة لإدمون عمران المليح «وهو بالمناسبة مفكر مغربي من أصول يهودية توفي مؤخراً» يقول «من منّا لم يشعر مرة في حياته بالرغبة في أن يكون مزدوجاً، بل متغرّباً أو غريباً عن ذاته، وهي العلامة التي تدل على تعقد الشرط الإنساني»
ويبدو أن هذه المقولة كانت تحمل إجابة من نوع ما. ابن سينا كان أقرب لهذا: التغرّب كعلامة على تعقد الشرط الإنساني.
كأنه كلما كانت الحالة الإبداعية عند الإنسان أكبر، كان التغرب عنده أكبر والازدواج، وتعقد الشرط الإنساني أكبر وأكبر. لهذا كان إنسان ابن سينا منفلتاً خارج الشروط المجمع عليها، وداخل رؤيته الخاصة فقط.
تعقد الشرط الإنساني يبرز في سيرة ابن سينا وانتقالاته المتعددة والكثيرة بين موائد الملوك وبين بُسُط الفقراء. يبرز في تعقّد تكوين عائلته المكونة من أب وأخ اسماعيليين، وأم يهودية، وابن شيعي. يبرز في تعقد موقفه ضد دين أمه وأخيه وأبيه وتحرّجه منهم، في الوقت الذي يتخذ من أخص أصدقائه إلى نفسه ورفيق سفره ورحلاته مسيحياً. يبرز في علاقته بالحكام والأمراء ومحاولته الإبقاء على ذاته المستقلة رغم قربه الحميم منهم. في ما يجزل له هؤلاء من العطاء أو المطاردة. في التزامه بأعباء الطب والوزارة والتعليم والتأليف في وقت واحد. في قلة ساعات نومه، وانصراف ليله إلى الدرس والكتابة والقراءة. في اشتغاله على نفسه بالعلم دون معلم. كانت حياة ابن سينا كما قدمتها الرواية ضرباً من الاغتراب والازدواج والتعقيد، وهذا يكفي ليجعلها رواية ضاجة بالحركة التي يمكن لمسها وشمها والإحساس بمشاغبتها بين يديك.

http://www.alayam.com/Articles.aspx?aid=57147

قيم المنشور!

باسمة القصاب

باسمة القصاب

نصف جناح ونصف جسد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  • ×
    تسجيل الدخول / العضوية