«حروب الرحماء» وصدمة التلقّي للرحماء
تأخرت قراءتي لرواية «حروب الرحماء» للكاتب والصحافي المعروف ابراهيم عيسى (صدرت 2018) بسبب عدد صفحاتها ال700. لست من الذين يميلون إلى قراءة الروايات الضخمة، ولدي اعتقاد أن الرواية كلما مالت إلى التضخّم في عدد الصفحات ترهّلت، وداخلها المدّ والحشو والإعادة والتكرار والاسترسال، وفقدت بشكل تدريجي القدرة على مسك القارئ وشدّه. لكن هذه الرواية كسرت قاعدتي. فرغم ما داخلها من تكرار في بعض المواضع، بغرض التثبيت أو لشدّة إلحاح الفكرة ربما، إلا إنها بقت مشدودة وجاذبة منذ البداية حتى النهاية بأكثر مما يكفي؛ فاللغة القادرة والحوارات العميقة والمشاهد التي تكاد تراها بعينك لفرط سينمائيتها، جعلتني أتسمّر أمامها لساعات متواصلة في بعض الأحيان دون أن أشعر بنفسي.
هي الرواية الثانية من ثلاثية «القتلة الأوائل»، بدأها عيسى برواية «رحلة الدم» (صدرت 2016). تتناول الثلاثية ما عرف بالفتنة الكبرى؛ القلاقل والاضطرابات والنزاعات التي أدت إلى مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان في العام 35 هـ، وما تبعها من صراعات وحروب دموية طاحنة طوال فترة خلافة علي بن أبي طالب بدءاً من موقعة الجمل في 36 هـ، ثم معركة صفين في 37 هـ التي تناولتها هذه الرواية، حتى حروبه مع الخوارج التي يبدو أن الرواية الثالثة سوف تتناولها.
تكمن قيمة العمل الأدبي فيما يطرح من أسئلة إشكالية عميقة، سيما تلك المسكوت عنها والممنوع الاقتراب إليها أو مسّها. الكتاب الذي لا يجرح سطحاً ولا يخدش صورة ولا يثير منطقة تفكير رابضة هو ربض آخر.
ستبدأ أسئلة هذه الرواية من غلافها. ستقف عند عنوانها المتناقض «حروب الرحماء»، هو أقرب لاستخدام ساخر لما فيه من مفارقة. ستسأل نفسك: كيف يحارب الرحماء بعضهم بعضاً؟ ومن هم الرحماء؟ هل استعار الكاتب كلمة الرحماء من الآية القرآنية “محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم”؟ هل هم صحابة الرسول والمسلمين الأوائل الذين ترسّخ في وجدان المسلمين أنهم المتراحمين فيما بينهم المتوادّين المتراصّين كالبنيان المشدود، إذا اشتكى منه عضوٌ تَدَاعَىٰ له سائرُ الجسد بالسهر والحمّى؟ هل هم “خير الناس” الذين جاؤوا في “خير القرون”؟ فكيف يتحارب هؤلاء فيما بينهم؟ وكيف يصيرون أشدّاء على بعضهم؟ وكيف يقتل بعضهم بعضاً؟ كيف وهم صحابة الرسول والمسلمين الأوائل الذين ارتشفوا رحيق الإسلام من فم الرسول مباشرة؟ سيبقى هذا السؤال يتعمّق ويتوسّع أكثر كلما تعمّقت في داخل الرواية.
واجهتني في البداية صعوبة الإمساك بالأسماء والشخصيات التاريخية الكثيرة التي تضمّنتها -احتجت أن أستعين بـمحرّك البحث (جوجل) مراراً-، لكني كلما مضيت داخل الرواية أكثر، تمكنت مني أكثر وقبضت عليّ أحداثها وصراعاتها وسياقاتها الملتهبة. أدخلتني الرواية في قلب فتنتها بتفاصيلها وشخوصها وتناقضاتها، وجعلتني أمور بالغضب أحياناً والإحباط أحيان أخرى والسخط والألم واللوعة، لا أقوم منها إلا مشحونة بقهرها، وبأسئلتها المفتوحة على الفتنة الكبرى وما أحدثته من صدع كبير بين المسلمين، نعيش آثاره إلى اليوم.
برؤية باحثة رصينة، وجرأة ناقدة متمكّنة من أدواتها، تضعنا هذه الرواية مباشرة أمام الخطوط الحمراء التي يُمنع الاقتراب منها فضلاً عن نقدها فيما يتعلّق بالصحابة. فالمتحاربون هنا والمتصارعون والمتناحرون ليسوا أحداً غير (الرحماء). الصحابة المعاصرين للرسول، بل بعضهم من نقل عن الرسول أنه بشرهم بالجنة. ستكون هذه الرواية صادمة للتلقّى المدرسي لهذه الفترة التاريخية الحرجة، وستكون صادمة للتلقي الذي يترحم على جميع (الرحماء) بلا استثناء ولا تمييز ولا نقد، بل ستكون صادمة لفكرة (الرحماء) نفسها.
يأخذنا ابراهيم عيسى إلى بشرية هذه الشخصيات التاريخية التي طالما حفظنا أسماءها بسطحية، وصنّفناها ضمن مفارقاتنا المذهبية بين تقديس أو تجريم، يجعلنا نراها أمامنا كائنات بشرية طبيعية من لحم ودم، تتحرك من خلال رحمتها أو سيفها، تقواها أو هواها، عدلها أو مطامعها، تناقضاتها واعتلاجاتها وهواجسها وشكوكها ومآربها وطموحاتها ودسائسها وخياناتها ومؤامراتها. يغوص بنا أيضاً في قلب الأحداث التاريخية الصاخبة التي ورثناها عناويناً ورؤوس أقلام ضمن تكويناتنا الثقافية أيضاً: قتل عثمان، قميص عثمان، حرب الجمل، معركة صفين، رفع القرآن على المصاحف… الخ، فيفرشها أمامنا ملء العين والإذن، حتى كأننا نسير بين جثثها ونشم دماء قتلاها.
ستضعنا الرواية أيضاً أمام تساؤلات حقيقية أخرى: هل يمكن للمثالية أن تحكم العالم؟ أم إن “إمامة الصلاة للأتقى، وإمامة الحكم للأدهى”؟ وإن “الرجل الذي لا يبرع في المكيدة، بل يمقتها ويعتبرها نقيصة خسيسة، لا يصلح أن يكون أميراً للبلاد والعباد”؟
يمكنني أن أقول -إن صحّ التعبير- أن هذا الكتاب ليس رواية تاريخية، بل رواية تاريخ. فالرواية التاريخية عادة ما يعمل فيها الخيال في صناعة الأحداث والوقائع وحتى الشخصيات، لكن هذه الرواية جميع شخصياتها حقيقية، وكل أحداثها تستند إلى وقائع وردت في مراجع تاريخية معروفة ومعتمدة صدّر المؤلف بها روايته ليؤكد العمق البحثي الذي استند عليه، وكثير من نصوصها والحوارات الدائرة فيها هي من بطون الكتب التاريخية المشهورة، فمن أراد أن يقرأ تاريخاً صعباً ومعقّداً بأسلوب روائي مبدع ومتمكن وقادر وشيّق، فتلك هي.