رومانسيـــــــة
أعود للكتابة في صحيفة الأيام، البيت الأول الذي احتضن عدداً من أبرز الأسماء في صحافتنا اليوم، والتي بقت دائماً مكاناً أليفاً قادراً على احتضان الجديد، والمزيد. علاقتي مع صحيفة الأيام جاءت متقطعة وغير منتظمة، ربما لأن علاقتي بالكتابة كانت كذلك، وربما لأني لم أستطع بلورة ذاتي الكتابية قبل 2006م. لكن «الأيام» كانت دائماً باباً مفتوحاً، ويداً ممدودة.
هذه العودة، تعيدني إلى أجواء خاصة، تحديداً إلى 2001، حيث كل شيء في هذا الوطن ساخن وملتهب ومتحرك. السجون للتو أُفرغت من السجناء السياسيين. المنفيون والمبعدون يتقاطرون من الخارج. الميثاق يشهد تدشينه الجماهيري. الجمعيات تتشكل على اختلاف توجهاتها وانتماءاتها السياسية والمهنية والاجتماعية. حرية الرأي تبلغ منطقة متقدمة وغير مسبوقة. الحوارات الساخنة تشغل الصحف والمنتديات والملتقيات. الشارع في لهفة الكلام والندوات تقام في كل مكان. كل شيء أشبه بالحلم الذي لم نعشه. هنا سأجد نفسي مدفوعة إلى الكتابة.
مقالي الأول الذي نُشر في صفحة «قضايا»، كان يحمل عنوان «فهل يغيرنا الحب؟». سؤال يقصد أن يستوقف فينا أفق التغيير الذي بدأنا نعيش ملامحه حينها، ويدعو اختلافاتنا لفتح قلبها على جامع الوطن. قال لي مسؤول الصفحة ناصحاً وباسماً: «اسمعي يا باسمة.. هذه الصفحة سياسية، وأنت تكتبين بلغة رومانسية، تخففي من رومانسيتك في الكتابة لتناسبي مزاج هذه الصفحة». الآن تغير نمط كتابتي كثيراً جداً، لكني لا أعرف هل تخلصت من (وصمتي) بالرومانسية أم لا، وفي الحقيقة لم تكن تقلقني هذه الوصمة – ما لم تكن تمثِّل وهماً ساذجاً وسطحياً – بل ربما العكس، فإذا كانت الرومانسية تحضر في مفهومنا العام على أنها حلم، والسياسة على أنها واقع، فإنه بدون الحلم يصبح الواقع غلاظة لا يمكن احتمالها ولا الاستمرار فيها.
يمكنني أن أعرِّف الرومانسية – في حدِّها غير الساذج – بأنها أنوثة تخفف من تبجُّح السياسة وواقعها الذكوري. فإذا كان الواقع يغصُّ بما تبنيه حضارات الذكورة من مآسٍ، كما في تعبير أنسي الحاج: «الرجل بنى حضارة الموت، حضارة القتل، حضارة الحرب، حضارة الغزو والنهب والاضطهاد»، فإن الأنوثة هنا (الحلم أو الرومانسية) تمثَّل اللطافة الذي تقترح وجوه أخرى محتملة للحضارة، وتمهّد لإحلالها بدل تلك المتصدّعة والعنيفة. «إحلال السلام محل العنف، واللين محل القسوة، والمتعة محل الواجب، والجمال محل الفعالية، والسحر محل السلطة» (1).
في 2001، كان أكثرنا – بنسبة 98.4%- يعيش أنوثة الحلم أو رومانسيته بدرجة أو بأخرى، قبل أن ترتد بنا ذكورة الواقع من جديد. جميعنا كنا فيما نحلم به من إحلال الواقع المُرّ بالآخر الذي لم نعشه: إحلال السلام محل العنف، واللين محل القسوة، والسحر محل السلطة، والائتلاف محل الخلاف، والتكامل محل التنابذ، والحوار محل الطرش، والإندماج محل النفور، والمساواة محل الاستئثار، والعدل محل الفساد، والوطن محل الحزب والجماعة والقبيلة والطائفة. وجميعنا لم نكن نتمنى أن نفيق من الحلم. لا أحد ينكر هنا كم سَحَرَنا هذا الحلم وكم بهرنا وكم حوّلنا وكم استفز قلوبنا ومشاعرنا وتوقيعاتنا ومواثيقنا وحِراكنا، وكم فتح شهيتنا لصفحة جديدة. هل كان يمكن أن يحدث شيء لولا أن السلطة السياسية اختارت حينها أن تدخل قلوب الناس عن طريق الحُلم؟ ولولا أن رومانسية هذا الشارع (بحدها الإيجابي) اختارت التعاطي مع هذا الحلم من أجل إحلال واقع جديد محل القديم؟!
مجموعة «أُوال» الحوارية الإلكترونية، هي إحدى تجليات الانفراج السياسي، وواحدة من المجموعات الحوارية والمنتديات التي سيّرها عطش الشارع للحوار المفتوح في ذلك الوقت، استقطبت عدداً من أبرز الصحفيين والمثقفين والكتاب والسياسيين. كان كل منهم لا يزال يحاول لملمة صيغة توافقية تبقي الحُلم في داخله وفي خارجه بمأمن من التصدّع. في هذه المجموعة شهدتُ لأول مرة الحوار بوصفه شهقة المختلفين، الرقي الذي يبقيك في احترام جميع الآراء وأنت تنصت لها من زوايا المختلفين. كانت القلوب لا تزال مساحة التقاء، والأفكار لا تزال بضة طرية (ولنسمها رومانسية أو حالمة) في مختبر حوارنا الافتراضي، نعم هكذا كانت، قبل ان يترهل كل شيء في مختبرات واقعنا الذي سنعيشه فيما بعد، وقبل أن تتشتت الأسماء، ليبرز بعضها داخل دهاليز السياسة بعنف أحياناً، ويتطرف بعضهم في رجم بعض.
وهكذا سريعاً ما يصرع الواقع الصورة الرومانسية التي نحلم بها، لكننا نظل نتمنى أن لا يغادرنا الحلم، أو لا أقل من أن يبقى فينا شيئاً منه، بعد أن يفقدنا الواقع براءتنا.