أحمد الزبيدي..المارق من كل شيء إلا الجرأة على الطريق..
عندما كنت أقرأ مؤلفاته (انتحار عبيد العماني)، و(أحوال القبائل عشية الانقلاب الانجليزي في صلالة)، و(إعدام الفراشة)، تلك الضاجة برائحة بارود الثورة، لم أكن أتوقع أن يكون أحمد الزبيدي (مولود 1945)، إلا أديباً متجهماً منكوداً، بقدر ما هو منكوب بالثورة، مسكون بالنار والوحدة، قليل الابتسام والكلام، صعب المراس والألفة. كان ذلك ما تصورته عن ذلك الصعب المتمرد، الذي لا يكف يكتب عن الجرأة، رغم عمره الستيني، ورغم مرضه وأتعابه، ورغم ما لا يزال يتعرض له من سلطة المنع والتحقيق والمتابعة.
لم أتوقع أن ألتقيه رجلاً تلقائياً أريحياً فكاهياً باشاً بسيطاً بعيداً كل البعد عن التكلف. أن يُسقط الكلفة سريعاً حين يباشرني للوهلة الأولى: ”أنت أصغر من أصغر بناتي” يقول مازحاً. طبعاً كامرأة أفرحتني هذه العبارة، خصوصاً ما دمت لست الأكبر. كان قد اقترح أن نجلس في فضاء عام، فظفار في مثل هذه الأيام الخريفية تُسقط الجدران وتفترش الطبيعة. كانت زوجته مريم قد هيأت لنا سلّة صغيرة وضعت فيها شيئاً من الفاكهة والشاي وقليلا من الرطب استعداداً للرحلة القصيرة. أشار الزبيدي إلى السلة ”هذه (قُفة) مريم. لا تتحرك مريم إلا ومعها قُفتها”. ضحكنا. خرجنا جميعاً. هكذا سريعاً ما يُدخلك الظفاريون في قُفة قلوبهم بتلقائية تشبه تلقائية طبيعتهم الخريفية. في الطريق كلما أخذني شيئاً من سؤال إلى مريم، تلتفت إليّ: ”لا نريد أحاديث في السياسة، فقط في الطبيعة”. يخجلني فضولي المتسرع. أسكت. ثم لا ألبث أن أعود.
نزلنا عند (كهف عين جرزيز). كانت العين خالية من الماء. بالنسبة لي لم يكن الأمر إلا شبيهاً بعيون جزيرتي التي تيبست وماتت. بالنسبة للزبيدي كانت غصة. راح يروي ذكرياته عندما كان يسبح فيها قبل سنوات: ”من هنا كنا نقفز”، ”كان ارتفاع الماء يصل إلى هذا الحد”. أما مريم فراحت تروي بحسرة كيف كانت النباتات قبل عامين في كثافة الماء: ”أخشى ما أخشاه أن تقفد ظفار شيئاً فشيئاً طبيعتها الخضراء”. يطمئنها الزبيدي: ”يُعتقد أن الطبيعة تجدد نفسها بنفسها كل 40 عاما”. نغادر العين اليابسة.
نرتحل إلى مكان آخر، إلى جبل أخضر هذه المرة. الجبل يشرف على سلسلة من التلال المبللة خضرتها، تنام أمامه/ أمامنا بدلال فاتن، لكن ممتنع. ما إن قابل الزبيدي تلك التلال، وجلس في مهب فساحتها، حتى داخلته بنسمات هوائها الباردة، انتفخ وتجلىّ، ارتفع عنه المحظور الذي لا يحضره أصلاً، انفتح دون سؤال، راح يقتحم التاريخ تلة تلة، والسياسة والفكر والثقافة والتجربة والثورة. جلس كخطيب فاره أمام جمهور فارع من الطبيعة والتلال. ربما هي أكثر قدرة على الاستيعاب من الناس. لم يسكت.
”هبني أيها الحكيم صديقتي الفراشة، فأنا الولد الحميري مسكون بالنار ومطيب باللهب وموعود بالحريق الجميل. الحريق الذي لا يبقى بعده إلا فراشة العشق النبيل” يقول في (إعدام الفراشة). كأنه (عبيد العماني) بطل رواياته، ذلك الحميري المسكون بالنار، والمطيب باللهب، والموعود بالحريق الجميل، والحالم بفراشة عشق جميل.
ما الفراشة؟ أهي الثورة التي حكم عليها بالإعدام؟ وأن تمحى من ذاكرة التاريخ والإنسان؟ ”لقد حكمت على صديقتك الفراشة بالإعدام، وحكمنا عليك أنت باستبدال رأسك”، هل استبدل رأس الثوار؟ أم استبدل رأس المكان؟ أم استبدل وجه التاريخ؟
ولماذا فراشة؟ ألأنها ثورة على الغلاف؟ غلاف الفقر والجهل والمرض والخوف؟ أم لأن أجنحتها سريعاً ما احترقت بمجرد أن قاربتها النار؟ وأي نار؟ نار السلطان؟ أم نار الثوار أنفسهم؟ أم هي فراشة لأن أثرها لا يزال يخبط، مثل ضربات الدوم دوم، في زوايا الرؤوس التي استبدلت؟ ربما كلها..
ارتبط اسم الزبيدي بتاريخ الحركة الوطنية العمانية مبكراً. نشط في صفوف الحركة الطلابية منذ كان طالباً في القاهرة خلال المرحلتين الإعدادية والثانوية، ومنها ذهب دمشق لمواصلة دراسته الجامعية في القانون، وهناك بقى 15 عاماً. ثم إلى العراق التي قضى فيها مرحلة انتقالية قبل أن يعود إلى عمان في منتصف السبعينات. وكانت تلك محطته الأخيرة التي بدأ خلالها سلسلة من الأعمال الأدبية. نشر بعضها في مجلة الأزمنة الإماراتية، وصحيفة الخليج، وبعض المجلات اليمنية، لكن ليس العمانية.
يمتنع الزبيدي عن المشاركة في فعاليات المؤسسات الثقافية الحكومية المهيمنة على شؤون الأدب والثقافة في البلاد. ورغم كونه أحدد أبرز الروائيين العمانيين، إلا أن نصوصه لا تلقى مكاناً لها للنشر في عمان، وهي ممنوعة من الدخول، ولا تحظى في الوسط الثقافي المؤسسي العماني بأية قراءة. يمتنع كذلك عن الانضمام إلى أية جمعية أدبية أو ثقافية في عمان، ويرى أن ”أي مؤسسة ثقافية لا تمتلك القدرة على أن تنتخب مجلس إدارتها بشكل ديمقراطي، لن أكون يوماً جزءا منها. المؤسسة الثقافية إن لم تكن ديمقراطية ومتحررة من هيمنة السلطة، كيف لها أن تقوم بدورها الطبيعي: أن تحرر الآخرين من كل أشكال الهيمنة”. يقول.
في نهاية يونيو 2009 الماضي، كان الزبيدي يخضع لتحقيق استمر قرابة الأسبوع، يبدأ معه منذ الصباح الباكر، ويفرج عنه مساءً مراعاة لظروفه الصحية المعتلة أساساً بسبب العمر والمرض. لم يلبث بعد انتهاء التحقيق معه أن لازم سرير العناية القصوى الذي غادره مؤخرا. جاء التحقيق على خلفية نشره لرواية ”أحوال القبائل عشية الانقلاب الإنجليزي في صلالة”، وهي ذاتها الرواية التي تم منعت من دخول معرض مسقط .2009 واتهمت بأنها ”كتب تبث السموم والأمراض” كما صرح بذلك مدير عام الإعلام العماني في معرض رده على سبب المنع.
”وحدها الجرأة على الطريق، هي التي تسمح بأن يظهر الطريق” يقول الروائي باولو كويلو. ولأن طريق الثورة في ظفار هو الطريق المسكوت عنه، فإن الجرأة عليه، وحدها القادرة على إظهاره كجزء من حركة التاريخ. يتجرأ الزبيدي على هذا الطريق، ولا يكتفي منه، بل يتخذه مشروعاً قلقاً يحرك جميع أعماله الأدبية. ”ما هو دور المثقف ما لم يروِ عصره؟ ما لم يتجرأ على إظهار مسكوتاته؟ ما لم وما لم يضع هذه المسكوتات على طاولة القراءة والنقد والتمحيص والتفكيك، وما لم يفتح الطريق لمن يأتي بعده؟”. يقول الزبيدي.
بهذه الجرأة على الطريق، يعمل الزبيدي على جعل الذاكرة تتنحنح من سبات منعها. يختار الزبيدي رموزه وأسماءه وشخوصه من قلب الطريق ومن قلب الحدث ومن قلب التاريخ. وهو في تقليبه هذا، لا يستثني أيّ ممن كان فاعلاً في هذا الطريق: الثوار، القادة، النظام، القبائل، وأحوالها. لهذا ربما لا يحظى الزبيدي برضا أي من أطراف الطريق، لهذا أيضاً يبقى الزبيدي مارقاً من كل الطرق، لا ساكناً في أي منها. فالجرأة على الطريق لا تتم إلا عبر الخروج من سلطة السكون فيه.