» مقالات » مثقفو الحلطمة
مقالات

مثقفو الحلطمة

23 نوفمبر، 2023 40218

 

 

أن يكون شخصاً متحلطِماً، فهذا أمر مزعج ومنفّر، لكن أن يكون مثقفاً متلحطِماً، دأبه التذمر من المجتمع طوال الوقت، أو فئة بعينها من المجتمع، فهذا أمر مخجل ومعيب، لأن امتهان الحلطمة (التذمّر والتبرم واللوم والاستياء والتشكّي) من سمات العاجز لا المبدع، الجامد لا الحيوي، البليد لا المتحدّي، المتلقّي لا المنتج، والمثقف سمته التوليد والبعث والإحياء؛ توليد الأفكار وبعث الحركة في المجتمع وتنشيط الميدان العام، وحين ينزلق المثقف إلى ماكينة الحلطمة، فإنه يكون جزءاً من تكريس العجز.

 

ينظر (مثقف الحلطمة) إلى مجتمعه بتعالي، لا يرى فيه غير الجهل والتخلّف والخيبة، الرجعية والظلامية والتعصب، يرى فئات مجتمعه همج رعاع لا نهضة للمجتمع بهم، وقد يسوقهم سبباً لكل الأزمات والخيبات التي يمر بها مجتمعه، وكل ما يشهده من إخفاقات سياسية، وربما الاقتصادية أيضاً (لن يقترب من السلطة)، وسيخلص إلى أن المجتمع غير مؤهل لخوض تجربة ديمقراطية حقيقية. 

لن يكون تجاوزاً إذا قلنا أن خلاصة طرحه هو التالي: (صليمة تصكّم ما في أمل منكم)! 

 

ثم ماذا بعد الحلطمة؟ لا شيء. سيظل يلوف في حلطمته، لكنه لن يقدم لك قراءة رصينة لواقع مجتمعك، ولا محاولة لفهم تكوينات هذا المجتمع بما يتيح لك إعادة قراءة ذاتك وتشكلاتك فيه، ولا عمق يجعلك قادر على الدخول معه في حوار غير متشنج، سوف لن تجد غير النبرة المتعالية على تلك الفئات، يقابله تشنّج تلك الفئات نحوه، والرفض الصارم لكل ما يصدر عنه.

 

يُوصى الشباب المبتدئين في مجال ريادة الأعمال عادة، بتجنّب الجلوس إلى الفاشلين الصغار، أولئك الذين ليس في حديثهم غير الحلطمة والتذمر من الواقع الذي يغتال كل فرص النجاح، لأنها مجالس تحطّم المعنويات وتشعر بالإحباط وتكرّس ثقافة الفشل، وإن عليهم بالمقابل السعي لمجالسة روّاد الأعمال الكبار ورجال الأعمال الناجحين، فهؤلاء يبثّون الإلهام بما لديهم من تجارب وخبرات ومهارات وأفكار، ويبعثون الطموح والرغبة والتفكير خارج الصندوق. الناجح لا يأخذك إلى الحلطمة بل يحرّك الساكن الذي فيك ويستفزّك نحو المغامرة، يقدّم لك أفكاراً وتجارب تلهمك وتستنهضك وتجعلك تعيد النظر في ذاتك وواقعك.  

ما الذي يجنيه المجتمع من مثقف يظل يرميه بأحكام الفشل والخيبة والجهل والتخلف، مثقف يرى نفسه فوق المجتمع أو فوق فئة من الناس، مثقف يستنكف الاندماج بالمجتمع، لا شيء. لا شيء غير التكريس. نحن نعلم أن الإنسان يتأثر بالصورة المكرّسة عنه، عندما يكُرر على مسامع طفلٍ لديه صعوبات: أنت غبي وفاشل ولا أمل منك، فإنه سيكون كذلك وسوف لن يتجاوز تلك الصورة المكرّسة عنه، لكن الاقتراب منه ومحاولة فهم مشكلاته ومشاركته العمل على إعادة التفكير فيها، تنقله إلى منطقة أخرى. 

يحمل المثقف هاجس الحلحلة لا الحلطمة. الحلطمة تفريغ عاطفي محض، والحلحلة انشغال فكري. يميل الناس إلى الحلطمة لأنها الأسهل والأريح في تفريغ شحناتهم السلبية والتعبير عنها، قد يكون ذلك مقبولاً لبعض الوقت لكن ليس طوال الوقت، فكيف بالمثقف؟ إن أسهل ما يمكن أن يقوم به أحدنا هو إطلاق أحكام مختومة على مجتمع/ جماعة/ فئة، لكن الصعب هو اجتراح فكرة أو تعميقها، إثارة إشكاليات تستفزّ الأفكار لا الأشخاص، النظر إلى الأشياء عبر زوايا مغايرة، فتح قنوات رؤية جديدة، لكن مثقف الحلطمة يستفزّ الأشخاص ولا يحرّك الأفكار، يكرر نفسه ويعيد إطلاق أحكامه ويضاعف تكريس الأزمات، بل يصير خطابه مع الوقت جزءاً من أزمة التراشقات المتشنجة (صليمة تصكّم ما في أمل منكم)، وهو يحسب أنه يقود مناكفة فكرية! 

*********** 

26 أغسطس 2023

استشكل أعزاء على مقالتي (مثقفو الحلطمة)، بأنه هل على المثقف أن يصمت عن عيوب مجتمعه كي لا يكون (حلطومياً)؟ 

بالطبع لا. ليس هذا ما ناقشته المقالة. يصيغ المثقف مواقفه ورؤاه عبر الكلام لا الصمت، لكن طبيعة الكلام هو ما يستحق التوقف عنده، فالكلام يعامل معاملة الفعل، لأنه ينجز فعلاً في الآخرين، فهو إما ينجز قطعاً مع الآخرين (استياء، سخط، غضب، تشنج، تراشق، عراك، عداوة، رفض)، أو ينجز وصلاً (قبول، حوار، نقاش، تفكير، مراجعة، تسامح، اتفاق واختلاف)، ولا أحسب المثقف يهدف إلى القطيعة مع المجتمع عندما يتكلم، بل يهدف إلى بناء جسر تواصل يحدث تغيير ما، لا خوفاً من غضب أحد عليه، فهذا ليس ما يكترث له، بل لأنه بطبيعة الحال يهدف من خلال الكلام إلى إحداث فعل تغيير ما، لهذا يحرص المثقف أن يكون فطناً وحذقاً في الكلام، وهذا ما يميزه عن غيره من الناس، وإلاّ ما الفرق بينه وبين غيره من المتناحرين المتصارعين على منصة تويتر مثلاً؟

 معاجم اللغة تقدّم لنا هذا التعريف عن فعل ثقف، تقول: ثقِف الشَّخصُ: صار حاذقًا فَطِنًا/ ثقَّف الشيءَ: أقام المُعوَجَّ منه وسوّاه/ ثقَّف الأخلاق: أصلح السلوك والآداب/ رَجُلٌ مُثَقَّفٌ: مُتَعَلِّمٌ، مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْمَعَارِفِ، أَيْ ذُو ثَقَافَةٍ/ رجل غير مُثقّف: ضعيف في المعرفة المكتسبة من الكتب. ونحن هنا نتحدث عن كلام المثقف الذي ينجز فعل وصل مع الآخرين، لا الكلام الذي ينجز فعل قطع معهم، الكلام الحاذق الفطن الذي يريد أن يقيم الاعوجاج وينشد إصلاحاً. 

لست بحاجة أن استدل على أن (الحلطمة) فعل قطع، ولا أظنّ هناك من يختلف معي حولها. لهذا نحن نتحدث عن مثقف يفتح شقوق مجتمعه بفطنة وحذق، ينفذ إليها بمهارة كي يجعلنا نراها دون أن يتّهمنا ويتّهم عقولنا وشخوصنا و(يشرشح طوايف أجدادنا)، بل يستفز عقولنا لنشاركه الحديث عنها، إعادة التفكير فيها، إحالتها إلى مادة خصبة للنقاش والحوار، هكذا يتحرّك الجو العام نحو الفكرة لا الشخص، وهكذا يصير كلام المثقف فعل وصل، لا فعل قطع.

قيم المنشور!

نتیجة 3.00
باسمة القصاب

باسمة القصاب

نصف جناح ونصف جسد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  • ×
    تسجيل الدخول / العضوية